من "البيعة" إلى "الفضيلة": الأسماء والرموز في نظامين 

زين حسين

14 أيار 2023

ردّد الناس في الشارع أن السلطة فشلت حتّى في صناعة نصبٍ وطني جامع للعراقيين يحل بدلاً من بقايا تمثال صدّام حسين في ساحة الفردوس.. كان هذا أمراً واقعاً، فالسلطة الجديدة لا يجمعها جامع وطني.. عن سياسة العراق ما قبل البعث وبعده.

تحوّل اسم مدرستي من “تجديد البيعة” إلى “الفضيلة”.  

كنت في التاسعة من عمري في 9 نيسان عام 2003، عندما سحبت دبابة أمريكية تمثال صدّام حسين الضخم المنتصب وسط ساحة الفردوس ببغداد وأسقطته أرضاً على وجهه، وتفكّكت دولته البوليسية. 

انتهت حقبة البعث بناءً على ثلاثة عناصر صورية: تجمهر الناس متفرجين بانتظار سقوط الديكتاتور الذي خنق أنفاسهم لنحو ثلاثة عقود، ومن ثم سقوط التمثال الضخم، وأخيراً توزّع الدبابات الأمريكية في شوارع العراق.  

سُحل تمثال صدام في الشوارع، بصق المتجمهرون على البرونز الذي شكّل “الرئيس القائد”، وشُتم، وضُرب بالنعلِ. بقيت الساحة الضخمة خالية من نصب لأكثر من عقد ونصف، بينما قَدَم صدام الحسين البرونز هي الوحيدة التي بقيت موجودة على القاعدة الإسمنتية المتحطّمة وسط الساحة. 

ردّد الناس في الشارع أن السلطة فشلت حتّى في صناعة نصب وطني جامع للعراقيين يحل بدلاً من تمثال صدّام حسين. كان هذا أمراً واقعاً، فالسلطة الجديدة لا يجمّعها جامع وطني، ومنطقلها ضيّق: طائفي عند السياسيين الشيعة والسّنة، وقومي عند الكُرد، وما بينهما طوائف وأديان تحاول تجميع نفسها للحاق بركب عراق الطوائف الجديد. 

رموز جديدة.. رموز قديمة 

كان حكم البعث يقوم على الرموز. “تجديد البيعة”، اسم مدرستي، مشتق من البيعة لصدّام حسين، وبيتنا الذي تربّيت فيه، هو ثمن موت عمّي في الحرب العراقية – الإيرانية التي امتدت لثمانية أعوام. لا أدري أي طريقة حسابية أدت إلى إقناع عائلتي بأن عمّي هو ثاني شخص من مدينة بغداد قد سقط شهيداً في حرب الخليج الأولى الطاحنة. 

قبل هذا البيت، كنا نسكن في “مدينة الثورة”، والتي تحوّلت إلى مدينة صدّام. انتقلنا إلى منطقة “الشهداء”. كل بيت في المنطقة فَقَد شخصاً في مقتلة السنوات الثمان، ولولا قتلاهم، لما حصل الناس على أرض من نظام صدام ليبنوها ويسكنوها. 

مدرستي، “تجديد البيعة”، كان اسمها رمزاً لسلطة صدّام حسين، وبعدها بأشهر، ستصبح رمزاً للنظام الجديد: “الفضيلة”. لكن ليس هذا وحده ما تغيّر، فالرموز البعثية استُبدلِت برموز إسلامية، والكثير منها استخدم أدوات صدّام حسين نفسها: فرض الأفكار وأنماط الحياة على الناس، وفرض حتّى الرموز عليهم. 

على سبيل المثال، وبعد عقدين من غزو العراق، ستحلّ صورٌ عديدة لرجال سلطة وسياسة ودين يريدون أن يكونوا الرمز الأوحد في العراق. قادة يحلمون بعبادتهم وتمجيدهم، يطمحون إلى سماع الأغاني والقصائد العامية التي تتغنّى ببطولاتهم التي توهموها.  

الماجداتوالخايبات 

استخدم النظام الجديد أيضاً الفئات السكانيّة الهشة، والمصطلحات الفضاضة ذاتها التي استخدمها البعث ورئيسه، لإدامة النظام وتحشيد الناس حوله. 

سمّى صدام حسين العراقيات بـ”الماجدات”، وكان “شرفهن” هو الكلمة السحريّة في اجتماعاته لحض جنرالاته على خوض الحروب العبثية مع دول الجوار والعالم.  

خصّص البعث “الماجدات” بعد ذلك، وصرن فقط النساء اللواتي يرتدين الزيتوني، وينتمين لحزب البعث ويكتبن تقارير عن عائلاتهن وجيرانهن وزملائهن. 

صار العراق، كدولة، مرتبط بـ”شرف الماجدات”، وهو تعبير فضفاض لا تعريف له إلا في قاموس “القائد الضرورة” المليء بالكلمات والجمل غير المترابطة. 

في محاكمته، دافع صدّام عن حرب الكويت، وقال إنها جاءت لصون شرف الماجدات، وهكذا رآها حرباً عادلة ومنطقية وكانت البلاد مُجبرة على خوضها! 

السلطة الجديدة التي جاءت بدلاً عن “الطاغية”، استبدلت “الشرف” بـ”العرض”، و”الماجدة” بـ”الخايبة”.  

مَنّنتِ الفصائل المسلحة العراقيين منذ عام 2014 بأنها حمت أعراضهم، وعرضت صوراً لـ”الخايبات” اللواتي انخرطن في صفوفهم داعمات ومُهوِّسات وطابخات، وأحياناً مقاتلات وإعلاميات. “خائبات” يقدمن أولادهن قرابين للحرب، كما فعلت “الماجدات” من قبل. 

ثوب قديم وآخر جديد 

أغلب المدن والمؤسسات والشوارع كانت موصوفة بأسماء ذات نزعة قومية أو إسلامية إبان حكم البعث. صدام كان يختار أغلبها، ويقرّر بشأنها، ورأي العراقيين فيها غير مُهم بالطبع. 

وبالطريقة ذاتها، نقل النظام الجديد الأسماء من القومية العربية إلى الإسلام الطائفي. صارت مدناً وشوارع ومدارس ومستشفيات وحتى فرق كرة قدم تُسمّى بأسماء أئمة شيعة أو أسماء ترتبط بهم. مثال ذلك، حي الحسين، حي البتول، مستشفى الكفيل، مدينة الصدر، مستشفى الصدر، منتدى الحكيم، نادي الحسين.. الخ.  

ووصل الصراع والتنافس أحياناً إلى تقاسم المُدن بين الزعامات، وذلك بمعزل عن رغبة السكان أو حتّى استشاراتهم، وعلى سبيل المثال، التنافس بين عائلتي الصدر والحكيم. ففي محافظة النجف، إذا ما افتتحت مستشفى باسم الصدر، فلا بد، بالمقابل، أن توجد ساحة باسم الحكيم. 

الحال هذه، فإن السلطة هي التي تضفي على المجال العام غطاء توظفه لمصالحها، والإعلان عن وجودها، وتأكيد بقائها. أما المجتمع في هذه المعادلة فهو غير مرئي، ولا حاجة لمعرفة متطلباته أو حتّى استشارته بهذه التغييرات؛ واختلاف أيديولوجيات النظامين المختلفين، لا ينفي حقيقة وجود تماهٍ بينهما في الأفكار، ولا سيما في ما يتعلق بحرية التعبير: صدام كان لديه “الإعدام” لمن يعارضه، والإسلام السياسي لديه “الكاتم” لمن يحاول إبعاده عن السلطة. 

وينطبق الأمر أيضاً على البقاء بشكل مؤبّد في النظام وتوارثه جيلاً بعد جيل. عُمر النظام الجديد صار عشرين عاماً، وقد ورث بعض رجالاته السلطة، وتُحضَّر أجيال جديدة لرفعها إلى “الزعامة” أو الانخراط في المناصب السياسية.  

نظام البعث بدأ علمانياً، لكنه سعى في التسعينيات إلى تحجيب العراقيات وأسلمة شبّانه بعد انطلاق الحملة الإيمانية، أما النظام الجديد فهو حملة إيمانية بذاته، وأكثر ما يخشاه الحريات. 

محاولة النجاة 

حفظت اسمي مدرستي لكتابتهما على دفاتر الامتحانات، “تجديد البيعة” في عهد البعث، و”الفضيلة” في عهد النظام الجديد، أما في حياتي اليومية، فقد كانت “المدرسة” فقط، بلا اسم. 

فعل عراقيون كُثر ما فعلته، كل منهم حاول النجاة بطريقته، وبعضهم اقترح حلولاً وأسماء تخصّهم، واستغل المساحات الخاصة به، فقط، لممارسة هذا الحق. 

فعلى العكس من التسميات التي يطغى عليها الطابع الديني، لجأ أصحاب المشاريع الخاصة مثل المقاهي والمطاعم والمنتجعات السياحية إلى تسمية محالهم بأسماء حالمة مثل “عشق”، “فَيْ”، “مزايا”.. الخ.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

تحوّل اسم مدرستي من “تجديد البيعة” إلى “الفضيلة”.  

كنت في التاسعة من عمري في 9 نيسان عام 2003، عندما سحبت دبابة أمريكية تمثال صدّام حسين الضخم المنتصب وسط ساحة الفردوس ببغداد وأسقطته أرضاً على وجهه، وتفكّكت دولته البوليسية. 

انتهت حقبة البعث بناءً على ثلاثة عناصر صورية: تجمهر الناس متفرجين بانتظار سقوط الديكتاتور الذي خنق أنفاسهم لنحو ثلاثة عقود، ومن ثم سقوط التمثال الضخم، وأخيراً توزّع الدبابات الأمريكية في شوارع العراق.  

سُحل تمثال صدام في الشوارع، بصق المتجمهرون على البرونز الذي شكّل “الرئيس القائد”، وشُتم، وضُرب بالنعلِ. بقيت الساحة الضخمة خالية من نصب لأكثر من عقد ونصف، بينما قَدَم صدام الحسين البرونز هي الوحيدة التي بقيت موجودة على القاعدة الإسمنتية المتحطّمة وسط الساحة. 

ردّد الناس في الشارع أن السلطة فشلت حتّى في صناعة نصب وطني جامع للعراقيين يحل بدلاً من تمثال صدّام حسين. كان هذا أمراً واقعاً، فالسلطة الجديدة لا يجمّعها جامع وطني، ومنطقلها ضيّق: طائفي عند السياسيين الشيعة والسّنة، وقومي عند الكُرد، وما بينهما طوائف وأديان تحاول تجميع نفسها للحاق بركب عراق الطوائف الجديد. 

رموز جديدة.. رموز قديمة 

كان حكم البعث يقوم على الرموز. “تجديد البيعة”، اسم مدرستي، مشتق من البيعة لصدّام حسين، وبيتنا الذي تربّيت فيه، هو ثمن موت عمّي في الحرب العراقية – الإيرانية التي امتدت لثمانية أعوام. لا أدري أي طريقة حسابية أدت إلى إقناع عائلتي بأن عمّي هو ثاني شخص من مدينة بغداد قد سقط شهيداً في حرب الخليج الأولى الطاحنة. 

قبل هذا البيت، كنا نسكن في “مدينة الثورة”، والتي تحوّلت إلى مدينة صدّام. انتقلنا إلى منطقة “الشهداء”. كل بيت في المنطقة فَقَد شخصاً في مقتلة السنوات الثمان، ولولا قتلاهم، لما حصل الناس على أرض من نظام صدام ليبنوها ويسكنوها. 

مدرستي، “تجديد البيعة”، كان اسمها رمزاً لسلطة صدّام حسين، وبعدها بأشهر، ستصبح رمزاً للنظام الجديد: “الفضيلة”. لكن ليس هذا وحده ما تغيّر، فالرموز البعثية استُبدلِت برموز إسلامية، والكثير منها استخدم أدوات صدّام حسين نفسها: فرض الأفكار وأنماط الحياة على الناس، وفرض حتّى الرموز عليهم. 

على سبيل المثال، وبعد عقدين من غزو العراق، ستحلّ صورٌ عديدة لرجال سلطة وسياسة ودين يريدون أن يكونوا الرمز الأوحد في العراق. قادة يحلمون بعبادتهم وتمجيدهم، يطمحون إلى سماع الأغاني والقصائد العامية التي تتغنّى ببطولاتهم التي توهموها.  

الماجداتوالخايبات 

استخدم النظام الجديد أيضاً الفئات السكانيّة الهشة، والمصطلحات الفضاضة ذاتها التي استخدمها البعث ورئيسه، لإدامة النظام وتحشيد الناس حوله. 

سمّى صدام حسين العراقيات بـ”الماجدات”، وكان “شرفهن” هو الكلمة السحريّة في اجتماعاته لحض جنرالاته على خوض الحروب العبثية مع دول الجوار والعالم.  

خصّص البعث “الماجدات” بعد ذلك، وصرن فقط النساء اللواتي يرتدين الزيتوني، وينتمين لحزب البعث ويكتبن تقارير عن عائلاتهن وجيرانهن وزملائهن. 

صار العراق، كدولة، مرتبط بـ”شرف الماجدات”، وهو تعبير فضفاض لا تعريف له إلا في قاموس “القائد الضرورة” المليء بالكلمات والجمل غير المترابطة. 

في محاكمته، دافع صدّام عن حرب الكويت، وقال إنها جاءت لصون شرف الماجدات، وهكذا رآها حرباً عادلة ومنطقية وكانت البلاد مُجبرة على خوضها! 

السلطة الجديدة التي جاءت بدلاً عن “الطاغية”، استبدلت “الشرف” بـ”العرض”، و”الماجدة” بـ”الخايبة”.  

مَنّنتِ الفصائل المسلحة العراقيين منذ عام 2014 بأنها حمت أعراضهم، وعرضت صوراً لـ”الخايبات” اللواتي انخرطن في صفوفهم داعمات ومُهوِّسات وطابخات، وأحياناً مقاتلات وإعلاميات. “خائبات” يقدمن أولادهن قرابين للحرب، كما فعلت “الماجدات” من قبل. 

ثوب قديم وآخر جديد 

أغلب المدن والمؤسسات والشوارع كانت موصوفة بأسماء ذات نزعة قومية أو إسلامية إبان حكم البعث. صدام كان يختار أغلبها، ويقرّر بشأنها، ورأي العراقيين فيها غير مُهم بالطبع. 

وبالطريقة ذاتها، نقل النظام الجديد الأسماء من القومية العربية إلى الإسلام الطائفي. صارت مدناً وشوارع ومدارس ومستشفيات وحتى فرق كرة قدم تُسمّى بأسماء أئمة شيعة أو أسماء ترتبط بهم. مثال ذلك، حي الحسين، حي البتول، مستشفى الكفيل، مدينة الصدر، مستشفى الصدر، منتدى الحكيم، نادي الحسين.. الخ.  

ووصل الصراع والتنافس أحياناً إلى تقاسم المُدن بين الزعامات، وذلك بمعزل عن رغبة السكان أو حتّى استشاراتهم، وعلى سبيل المثال، التنافس بين عائلتي الصدر والحكيم. ففي محافظة النجف، إذا ما افتتحت مستشفى باسم الصدر، فلا بد، بالمقابل، أن توجد ساحة باسم الحكيم. 

الحال هذه، فإن السلطة هي التي تضفي على المجال العام غطاء توظفه لمصالحها، والإعلان عن وجودها، وتأكيد بقائها. أما المجتمع في هذه المعادلة فهو غير مرئي، ولا حاجة لمعرفة متطلباته أو حتّى استشارته بهذه التغييرات؛ واختلاف أيديولوجيات النظامين المختلفين، لا ينفي حقيقة وجود تماهٍ بينهما في الأفكار، ولا سيما في ما يتعلق بحرية التعبير: صدام كان لديه “الإعدام” لمن يعارضه، والإسلام السياسي لديه “الكاتم” لمن يحاول إبعاده عن السلطة. 

وينطبق الأمر أيضاً على البقاء بشكل مؤبّد في النظام وتوارثه جيلاً بعد جيل. عُمر النظام الجديد صار عشرين عاماً، وقد ورث بعض رجالاته السلطة، وتُحضَّر أجيال جديدة لرفعها إلى “الزعامة” أو الانخراط في المناصب السياسية.  

نظام البعث بدأ علمانياً، لكنه سعى في التسعينيات إلى تحجيب العراقيات وأسلمة شبّانه بعد انطلاق الحملة الإيمانية، أما النظام الجديد فهو حملة إيمانية بذاته، وأكثر ما يخشاه الحريات. 

محاولة النجاة 

حفظت اسمي مدرستي لكتابتهما على دفاتر الامتحانات، “تجديد البيعة” في عهد البعث، و”الفضيلة” في عهد النظام الجديد، أما في حياتي اليومية، فقد كانت “المدرسة” فقط، بلا اسم. 

فعل عراقيون كُثر ما فعلته، كل منهم حاول النجاة بطريقته، وبعضهم اقترح حلولاً وأسماء تخصّهم، واستغل المساحات الخاصة به، فقط، لممارسة هذا الحق. 

فعلى العكس من التسميات التي يطغى عليها الطابع الديني، لجأ أصحاب المشاريع الخاصة مثل المقاهي والمطاعم والمنتجعات السياحية إلى تسمية محالهم بأسماء حالمة مثل “عشق”، “فَيْ”، “مزايا”.. الخ.