تجوال على درّاجة هوائية في أيام الغزو الأولى: واحترق النخيل!
20 نيسان 2023
قمت بجولة قصيرة على متن درّاجة سباق هوائية في شوارع بغداد وأحيائها القريبة من منزلي. تسللت إلى بعض مقار حزب "البعث"، ودخلت مبانيَ حكومية ومقرات لأجهزة الأمن القمعية... جولة طويلة في بغداد أثناء أيام الغزو الأولى..
قبل تسعة أشهر من بدء الغزو الأمريكي للعراق، كنتُ قد أنهيت للتو عاماً ونصف العام من خدمة التجنيد الإلزامي العسكري، وكنت شاهداً على مآل المؤسسة العسكرية وتهاويها.
كنت في صنف المخابرة، وتنقلت بين وحدات الفيلق الثالث في المنطقة الجنوبية (بصرة – عمارة – ناصرية)، وهي مناطق ستكون بعد ذلك إحدى البوابات التي سيدخل منها الجيش الأمريكي إلى بغداد.
كانت الأسلحة متهالكة، والكثير من المعدات صُنِّعت في ستينيات القرن الماضي وما قبلها، أما معنويات الضباط فكانت تسبح في مياه الحضيض الآسنة.
الفساد نخر كل شيء، والجنود كانوا يقدمون الرشا لضباطهم، والضباط لجنرالاتهم الكبار.
دائرة واسعة من الفساد، والكل يتفلت من “الواجب العسكري”.
ورغم التعتيم الرسمي، انتشرت على نحو محدود بين العراقيين أخبارٌ عن حتمية الهجوم العسكري الأمريكي القاصم، مقارنة مع الضربات الجوية التي شنتها الولايات المتحدة على مُدن وسط وجنوب البلاد عامي 1991 – 1998.
ظلت الأجواء في العاصمة بغداد هادئة والسماء صافية، حتى قبل أسابيع معدودة من بدء حرب أمريكا وحلفائها على العراق.
لكن التحركات والتخندقات والانتشار المريب لقوات النخبة (الحرس الجمهوري) وعناصر الأجهزة الأمنية ومجاميع “البعثيين” في المناطق السكنية، كانت تشي بأن شيئاً مهولاً على وشك الحدوث.
وهو ما حصل في نهاية المطاف.
رغم عسكرة بغداد التي كان يفوق تعداد سكانها خمسة ملايين نسمة، إلا أن النظام حاول جاهداً إشاعة طابع مغاير لأجواء الحرب التي كانت طبولها تقرع في الأنحاء. إذ استقدم النظام عدداً من المغنيات العربيات لإقامة حفلات غنائية، وكانت آخرها حفلة لنوال الزغبي أقيمت في ليلة مغبرة ماطرة داخل نادي الضباط القادة للترفيه عن كبار رجالات الجيش وجنرالاته الذين تراقصوا طيلة الليل بصحبة زوجاتهم وبناتهم.
العواصف الترابية.. “جُند السماء”!
خلال الأيام الأولى للغزو، ضربت عاصفة رملية “جهنمية” بلاد الرافدين، وهي قد تكون من بين الأكبر والأكثر عتمة على مرّ تاريخه، وحولت النهار إلى ليل والسماء إلى ما يشبه “الجحيم”.
بغداد حمراء قاتمة تماماً.
عدّ رجالات “البعث” ومُنظروه السياسيون ودعاته الدينيون انقلاب الأجواء كـ”إشارة ربانية” ودلالة على وقوف خالق الكون مع نظام حكمهم. استحضروا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والدلالات التاريخية لتهدئة روع العراقيين الخائفين من هول الحرب، والشاخصة أبصارهم نحو “جُند السماء” -التسمية التي أطلقتها الماكينة الدعائية البعثية على الغبار الأحمر.
وقد فاقم الوضع المناخي على العراقيين الأدخنة السوداء الناجمة عن إحراق الخنادق النفطية التي أمر رأس النظام السابق بحفرها وإشعالها، وهو الأسلوب البدائي نفسه الذي اتبعه صدام حسين في حرب الخليج الثانية؛ ولم تكن هذه الاستراتيجية إلا محاولة يائسة لشل القصف الجوي وحرف اتجاهات الصواريخ الأمريكية عن أهدافها المحددة!
صدام يترك قصوره
مع مرور الأيام الأولى للغزو، اشتدّ القصف الأمريكي وتركز على المواقع الرئاسية وقصور صدام حسين وأفراد عائلته المنتشرة في جانب الكرخ من العاصمة، وإثر ذلك، نجا رئيس النظام السابق من موت محقق بأعجوبة بعد قصف موقع سري في منطقة المنصور -الحي الراقي والذي يقطنه أفراد كثر من الطبقة الحاكمة والبعثات الدبلوماسية- وكان يستخدمه في أيام حكمه الأخيرة للاجتماع بحلقة ضيقة من وزرائه وقادته العسكريين.
دفع هذا الاستهداف المميت صدام لترك قصوره ومواقعه السرية واللجوء إلى منطقة الاعظمية ذات الغالبية السُنية من السكان، أو كما كان يسمّيها بـ”المدينة البيضاء”، وهي تسمية سيتفاخر بها الكثير من سكانها بعد ذلك، وستصنع أساطير وحكايات عن ارتباط الدكتاتور القادم من قرية العوجة بها.
وقد ظهر صدام حسين في الأيام الأخيرة للحرب ولمرتين متتاليتين بزيه العسكري رفقة حراس مدنيين وموكب سيارات صغير في الشارع الرئيسي للأعظمية وسط حشد من الجماهير كانت تحييه وتهتف باسمه.
كانت المرة الأولى في الرابع من نيسان عند تقاطع “رأس الحواش”، وهو مكان تجاري مشهور في الأعظمية، أما الظهور الثاني جاء بعد إسقاط تمثاله في ساحة الفردوس، وكان في ظهيرة التاسع من نيسان قرب مرقد “أبي حنيفة النعمان” على بُعد عشرات الأمتار من القصر الرئاسي المطلّ على نهر دجلة الذي سيطرت عليه القوات الأمريكية صباحاً بعد مواجهات حامية شاركت فيها طائرات “الشينوك” ومقاتلات “الأباتشي”.
“أبو العلوج”
في تلك الأيام، كان محمد سعيد الصحاف، وزير الإعلام الذي أُطلقت عليه تسمية “مُسيلمة الصحاف”، قريباً من رئيسه. كان وزير الإعلام يبيت في استوديو لتسجيل الأغاني يقع عند كورنيش الأعظمية، يبعد حوالي (500) متر عن أحد القصور الرئاسية، وبضعة شوارع فرعية من المنزل الذي كان يختبئ فيه صدام ومن معه في أيامهم البغدادية الأخيرة.
كما رئيسه، استيقظ الصحّاف في التاسع من نيسان على وقع قصف الطائرات الأمريكية للقصر الرئاسي القريب. وبعدها غادر وزير “الإعلام المُضلل” الذي ارتدى بذلة عسكرية، الاستوديو الفني متخفياً بزيٍّ مدنيٍّ ومركبة صغيرة.
الأعظمية.. آخر معاقل المواجهة
بينما كان سكّان بغداد يحتفلون بسقوط صدّام حسين، أو حائرين بما ستجلب لهم الأيام، كانت منطقة الأعظمية، بسكانها والمتطوعين العرب، ما تزال تقاوم جنود المارينز.
وبعد مواجهة شرسة قرب مرقد أبي حنيفة النعمان، جالت عربات “الهمفي” والمركبات العملاقة التي يعتليها جنود “المارينز” في شوارع وأزقة الأعظمية.
سقط مكان الظهور الأخير لصدام حسين كرئيس للعراق، وانتهت آخر معاقل بغداد في مواجهة الغزو الأمريكي.
جولة على “البايسكل”
عصر ذلك اليوم، قمت بجولة قصيرة على متن دراجة سباق هوائية في شوارع بغداد وأحيائها القريبة من منزلي. تسللت إلى بعض مقار حزب “البعث”، ودخلت مباني حكومية ومقرات لأجهزة الأمن القمعية التي كان المرء يرتعد لمجرد المرور بجانبها.
في صباح اليوم التالي، العاشر من نيسان، سادت الفوضى.
أخذت “الحواسم”، التسمية التي أطلقها صدام على حرب الخليج الثالثة، تتحوّل إلى صفة واسم وفعل[1] لسرقة المقار الحكومية ومنازل مسؤولي نظام البعث.
سُرِقت مؤسسات وأُحرقت أخرى أمام أعين القوات الأمريكية التي اكتفى جنودها بالتفرج على عمليات النهب المنظمة والعشوائية. وفي بعض الأحيان، ساعد الجنود الأمريكيون على السرقة عبر تحطيم أبواب البنوك والمصارف والوزارات والدوائر الحكومية العسكرية والمدنية.
واظبتُ على التجوال على “البايسكل” كل يوم، وكانت بغداد تزداد خواءً من الناس، لكن الأرتال العسكرية الأمريكية تكثر في شوارعها، ولا ينافسها على المدينة إلا جوقة سراق الأملاك العامة.
بدأت تتصاعد أعمدة الدخان من المقرات والبنايات الحكومية التي أُشعلت فيها النيران، وأخذت تغطي سماء العاصمة حتى أنها باتت معلماً من معالمها اليومية إلى جانب عمليات التخريب المتعمد والنهب الذي طال كل شيء.
مشاهد لا تُمحى
عشرون عاماً مرّت، نسيت الكثير من تفاصيل الجولات على الدراجة الهوائية، لكن المشاهد المؤلمة لتلك الأيام، لم تتحوّل إلى أطياف حتّى الآن. مشاهد مغرقة في عدم آدميتها.
جثث الجنود المحترقة أمام مصفى الدورة جنوب بغداد، والتي حفرت لها حفر صغيرة على الأرصفة، ولقمت لها من دون تغسيلها أو تكفينها أو حتّى توديعها بآية أو دعاء.
كانت قبوراً بلا شواهد، لأن لا أحد يعرف أصحابها.
ولا أنسى مشهد بكاء وعويل عائلة مسيحية عثرت على جثة ابنها الذي كان يعمل مستخدماً في القصر الجمهوري. كانوا يقفون عند بوابة حديقة “الزوراء” وينظرون إلى جثّة متفحمة داخل سيارة “تويوتا – بيك اب” حديثة الطراز.
أما العائلات التي أخفى صدّام ونظامه أبناءها وبناتها بسبب نشاطهم السياسي، فقد خرجت إلى الشوارع زرافات علّها تعثّر عليهم في أحد السجون السريّة، أو قد يجدون بقايا لهم في مقبرة جماعية.
كانت بغداد مفروشة ببقايا الأسلحة والمعدّات والآليات الثقيلة المدمرة، وشهوة القتل بين المدنيين، كانت مفتوحة بلا حدود.
اتسع القتل بين العصابات التي سرقت المصارف والمقار الرسمية، وصار أفرادها يقتلون بعضهم بعضاً، وسمح المدنيون لأنفسهم بالانتقام من أعضاء حزب البعث الذين قسوا عليهم أيام حكمهم، فضلاً عن الخلافات الصغيرة، التي صار السلاح أول ملجأ للتعامل معها.
لكن المشهد الذي ظل يتغيّر، ويتطور إلى قصّة مغرقة في الحزن، هو أشجار النخيل المحترقة في مزارع الدورة جنوب بغداد بعد أن طالها القصف.
طالت هذه الأشجار الباسقة النيران التي كانت تهدف إلى ضرب قصور صدام حسين وعائلته الحاكمة.
تعرضت المزارع لاحقاً إلى التجريف، وحرق نخليها بأيدٍ عراقيّة هذه المرّة.
شكّلت هذه النخلات رئة لبغداد على مدار عقود.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
قبل تسعة أشهر من بدء الغزو الأمريكي للعراق، كنتُ قد أنهيت للتو عاماً ونصف العام من خدمة التجنيد الإلزامي العسكري، وكنت شاهداً على مآل المؤسسة العسكرية وتهاويها.
كنت في صنف المخابرة، وتنقلت بين وحدات الفيلق الثالث في المنطقة الجنوبية (بصرة – عمارة – ناصرية)، وهي مناطق ستكون بعد ذلك إحدى البوابات التي سيدخل منها الجيش الأمريكي إلى بغداد.
كانت الأسلحة متهالكة، والكثير من المعدات صُنِّعت في ستينيات القرن الماضي وما قبلها، أما معنويات الضباط فكانت تسبح في مياه الحضيض الآسنة.
الفساد نخر كل شيء، والجنود كانوا يقدمون الرشا لضباطهم، والضباط لجنرالاتهم الكبار.
دائرة واسعة من الفساد، والكل يتفلت من “الواجب العسكري”.
ورغم التعتيم الرسمي، انتشرت على نحو محدود بين العراقيين أخبارٌ عن حتمية الهجوم العسكري الأمريكي القاصم، مقارنة مع الضربات الجوية التي شنتها الولايات المتحدة على مُدن وسط وجنوب البلاد عامي 1991 – 1998.
ظلت الأجواء في العاصمة بغداد هادئة والسماء صافية، حتى قبل أسابيع معدودة من بدء حرب أمريكا وحلفائها على العراق.
لكن التحركات والتخندقات والانتشار المريب لقوات النخبة (الحرس الجمهوري) وعناصر الأجهزة الأمنية ومجاميع “البعثيين” في المناطق السكنية، كانت تشي بأن شيئاً مهولاً على وشك الحدوث.
وهو ما حصل في نهاية المطاف.
رغم عسكرة بغداد التي كان يفوق تعداد سكانها خمسة ملايين نسمة، إلا أن النظام حاول جاهداً إشاعة طابع مغاير لأجواء الحرب التي كانت طبولها تقرع في الأنحاء. إذ استقدم النظام عدداً من المغنيات العربيات لإقامة حفلات غنائية، وكانت آخرها حفلة لنوال الزغبي أقيمت في ليلة مغبرة ماطرة داخل نادي الضباط القادة للترفيه عن كبار رجالات الجيش وجنرالاته الذين تراقصوا طيلة الليل بصحبة زوجاتهم وبناتهم.
العواصف الترابية.. “جُند السماء”!
خلال الأيام الأولى للغزو، ضربت عاصفة رملية “جهنمية” بلاد الرافدين، وهي قد تكون من بين الأكبر والأكثر عتمة على مرّ تاريخه، وحولت النهار إلى ليل والسماء إلى ما يشبه “الجحيم”.
بغداد حمراء قاتمة تماماً.
عدّ رجالات “البعث” ومُنظروه السياسيون ودعاته الدينيون انقلاب الأجواء كـ”إشارة ربانية” ودلالة على وقوف خالق الكون مع نظام حكمهم. استحضروا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والدلالات التاريخية لتهدئة روع العراقيين الخائفين من هول الحرب، والشاخصة أبصارهم نحو “جُند السماء” -التسمية التي أطلقتها الماكينة الدعائية البعثية على الغبار الأحمر.
وقد فاقم الوضع المناخي على العراقيين الأدخنة السوداء الناجمة عن إحراق الخنادق النفطية التي أمر رأس النظام السابق بحفرها وإشعالها، وهو الأسلوب البدائي نفسه الذي اتبعه صدام حسين في حرب الخليج الثانية؛ ولم تكن هذه الاستراتيجية إلا محاولة يائسة لشل القصف الجوي وحرف اتجاهات الصواريخ الأمريكية عن أهدافها المحددة!
صدام يترك قصوره
مع مرور الأيام الأولى للغزو، اشتدّ القصف الأمريكي وتركز على المواقع الرئاسية وقصور صدام حسين وأفراد عائلته المنتشرة في جانب الكرخ من العاصمة، وإثر ذلك، نجا رئيس النظام السابق من موت محقق بأعجوبة بعد قصف موقع سري في منطقة المنصور -الحي الراقي والذي يقطنه أفراد كثر من الطبقة الحاكمة والبعثات الدبلوماسية- وكان يستخدمه في أيام حكمه الأخيرة للاجتماع بحلقة ضيقة من وزرائه وقادته العسكريين.
دفع هذا الاستهداف المميت صدام لترك قصوره ومواقعه السرية واللجوء إلى منطقة الاعظمية ذات الغالبية السُنية من السكان، أو كما كان يسمّيها بـ”المدينة البيضاء”، وهي تسمية سيتفاخر بها الكثير من سكانها بعد ذلك، وستصنع أساطير وحكايات عن ارتباط الدكتاتور القادم من قرية العوجة بها.
وقد ظهر صدام حسين في الأيام الأخيرة للحرب ولمرتين متتاليتين بزيه العسكري رفقة حراس مدنيين وموكب سيارات صغير في الشارع الرئيسي للأعظمية وسط حشد من الجماهير كانت تحييه وتهتف باسمه.
كانت المرة الأولى في الرابع من نيسان عند تقاطع “رأس الحواش”، وهو مكان تجاري مشهور في الأعظمية، أما الظهور الثاني جاء بعد إسقاط تمثاله في ساحة الفردوس، وكان في ظهيرة التاسع من نيسان قرب مرقد “أبي حنيفة النعمان” على بُعد عشرات الأمتار من القصر الرئاسي المطلّ على نهر دجلة الذي سيطرت عليه القوات الأمريكية صباحاً بعد مواجهات حامية شاركت فيها طائرات “الشينوك” ومقاتلات “الأباتشي”.
“أبو العلوج”
في تلك الأيام، كان محمد سعيد الصحاف، وزير الإعلام الذي أُطلقت عليه تسمية “مُسيلمة الصحاف”، قريباً من رئيسه. كان وزير الإعلام يبيت في استوديو لتسجيل الأغاني يقع عند كورنيش الأعظمية، يبعد حوالي (500) متر عن أحد القصور الرئاسية، وبضعة شوارع فرعية من المنزل الذي كان يختبئ فيه صدام ومن معه في أيامهم البغدادية الأخيرة.
كما رئيسه، استيقظ الصحّاف في التاسع من نيسان على وقع قصف الطائرات الأمريكية للقصر الرئاسي القريب. وبعدها غادر وزير “الإعلام المُضلل” الذي ارتدى بذلة عسكرية، الاستوديو الفني متخفياً بزيٍّ مدنيٍّ ومركبة صغيرة.
الأعظمية.. آخر معاقل المواجهة
بينما كان سكّان بغداد يحتفلون بسقوط صدّام حسين، أو حائرين بما ستجلب لهم الأيام، كانت منطقة الأعظمية، بسكانها والمتطوعين العرب، ما تزال تقاوم جنود المارينز.
وبعد مواجهة شرسة قرب مرقد أبي حنيفة النعمان، جالت عربات “الهمفي” والمركبات العملاقة التي يعتليها جنود “المارينز” في شوارع وأزقة الأعظمية.
سقط مكان الظهور الأخير لصدام حسين كرئيس للعراق، وانتهت آخر معاقل بغداد في مواجهة الغزو الأمريكي.
جولة على “البايسكل”
عصر ذلك اليوم، قمت بجولة قصيرة على متن دراجة سباق هوائية في شوارع بغداد وأحيائها القريبة من منزلي. تسللت إلى بعض مقار حزب “البعث”، ودخلت مباني حكومية ومقرات لأجهزة الأمن القمعية التي كان المرء يرتعد لمجرد المرور بجانبها.
في صباح اليوم التالي، العاشر من نيسان، سادت الفوضى.
أخذت “الحواسم”، التسمية التي أطلقها صدام على حرب الخليج الثالثة، تتحوّل إلى صفة واسم وفعل[1] لسرقة المقار الحكومية ومنازل مسؤولي نظام البعث.
سُرِقت مؤسسات وأُحرقت أخرى أمام أعين القوات الأمريكية التي اكتفى جنودها بالتفرج على عمليات النهب المنظمة والعشوائية. وفي بعض الأحيان، ساعد الجنود الأمريكيون على السرقة عبر تحطيم أبواب البنوك والمصارف والوزارات والدوائر الحكومية العسكرية والمدنية.
واظبتُ على التجوال على “البايسكل” كل يوم، وكانت بغداد تزداد خواءً من الناس، لكن الأرتال العسكرية الأمريكية تكثر في شوارعها، ولا ينافسها على المدينة إلا جوقة سراق الأملاك العامة.
بدأت تتصاعد أعمدة الدخان من المقرات والبنايات الحكومية التي أُشعلت فيها النيران، وأخذت تغطي سماء العاصمة حتى أنها باتت معلماً من معالمها اليومية إلى جانب عمليات التخريب المتعمد والنهب الذي طال كل شيء.
مشاهد لا تُمحى
عشرون عاماً مرّت، نسيت الكثير من تفاصيل الجولات على الدراجة الهوائية، لكن المشاهد المؤلمة لتلك الأيام، لم تتحوّل إلى أطياف حتّى الآن. مشاهد مغرقة في عدم آدميتها.
جثث الجنود المحترقة أمام مصفى الدورة جنوب بغداد، والتي حفرت لها حفر صغيرة على الأرصفة، ولقمت لها من دون تغسيلها أو تكفينها أو حتّى توديعها بآية أو دعاء.
كانت قبوراً بلا شواهد، لأن لا أحد يعرف أصحابها.
ولا أنسى مشهد بكاء وعويل عائلة مسيحية عثرت على جثة ابنها الذي كان يعمل مستخدماً في القصر الجمهوري. كانوا يقفون عند بوابة حديقة “الزوراء” وينظرون إلى جثّة متفحمة داخل سيارة “تويوتا – بيك اب” حديثة الطراز.
أما العائلات التي أخفى صدّام ونظامه أبناءها وبناتها بسبب نشاطهم السياسي، فقد خرجت إلى الشوارع زرافات علّها تعثّر عليهم في أحد السجون السريّة، أو قد يجدون بقايا لهم في مقبرة جماعية.
كانت بغداد مفروشة ببقايا الأسلحة والمعدّات والآليات الثقيلة المدمرة، وشهوة القتل بين المدنيين، كانت مفتوحة بلا حدود.
اتسع القتل بين العصابات التي سرقت المصارف والمقار الرسمية، وصار أفرادها يقتلون بعضهم بعضاً، وسمح المدنيون لأنفسهم بالانتقام من أعضاء حزب البعث الذين قسوا عليهم أيام حكمهم، فضلاً عن الخلافات الصغيرة، التي صار السلاح أول ملجأ للتعامل معها.
لكن المشهد الذي ظل يتغيّر، ويتطور إلى قصّة مغرقة في الحزن، هو أشجار النخيل المحترقة في مزارع الدورة جنوب بغداد بعد أن طالها القصف.
طالت هذه الأشجار الباسقة النيران التي كانت تهدف إلى ضرب قصور صدام حسين وعائلته الحاكمة.
تعرضت المزارع لاحقاً إلى التجريف، وحرق نخليها بأيدٍ عراقيّة هذه المرّة.
شكّلت هذه النخلات رئة لبغداد على مدار عقود.