"ديكتاتورية البساطيل" و"ديمقراطية الأحذية".. عن الكيشوانية السياسية في العراق
02 أبريل 2023
من النظام الملكي مروراً بـ"البعث" وحتّى الفوضى التي أعقبت نيسان 2003.. الأنظمة السياسية في العراق من "القندرة" إلى "البسطال" إلى "النعال" و"الحذاء".. عن "الكيشوانية السياسية" وقصصها ودلالاتها داخل السياسة وخارجها..
ليس على سبيل المزاح أن يرتبط النعل، بكل أشكاله القديمة والجديدة، بالحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية منها، بل هو أمر جاد كل الجدّة في استخدامه فعلاً ولفظاً.
فلِلنَعْلِ حضورٌ واضحٌ وجلي في الذهن الاجتماعي الشعبي، كما أن سيرته لا تغيب عن السياق المتداول. فحين يُريد المرء امتداح أحد على حساب الآخر يستخدم عبارة “تروح فدوة لنعاله/ لقندرته”، وليس بعيداً عن ذلك حين يرغب برفع قيمة أحد أو جعله في مرتبة لا تضاهى تستخدم عبارة “محد يوصل لنعاله/ لقندرته”، كذلك توزع رُتب الشرف الاجتماعي والسياسي على أساس النعل “نعاله يشرفك/يشرفكم”، “نعاله اشرف منهم/اشرف منكم”. وفي حالة عدم الضبط الانفعالي، سرعان ما يقفز النعل من الأرض إلى “فم” المتحدث ليخرج على شكل مخطط له مسبقاً في الذهن، كما لو أن العملية قد حصلت كثيراً قبل ذلك.
العبارات المتداولة كثيرة، ولا يمكن حصرها في سياق ما أو داخل فئة من التوصيفات، لكن الأمهات مثلاً حين يغضبن من فعل ابنائهنَّ يهددن بالنعل، وتملك بعضهن آليات تصويب متقنة، حتى جرى الاعتقاد بأن تطيير النعل تقنية تُعلّم للأمهات اثناء فترة الحمل أو الخطوبة، ومما لا شك فيه أن أقرب اصدقائك حين يغضب منك ستكون من أقرب عبارات الغضب لديه هي “لا يا ابن النعال”، وحين يرغب المرء من الحطّ أو السخرية من أحدهم يستخدم “عاد شلون نعال!”، لكن تبقى إزاحة جدي للكلمة تستحق التوقف، حيث كان يقول لمن يغضبه من الأولاد المرحين “لا يا ابن اليمني”، واليمني هو نوع من النعل كان يستورد من اليمن.
علامة النعل
يستخدم النعل عادة في الحط من القدر ولتوجيه الإهانة وللتقليل من الشأن، ذلك لارتباطه الوثيق بالأرض بمعنى المتدني رمزياً، وهو في الوقت ذاته نقطة الالتصاق بين جسد الإنسان وكل ما على الأرض من قذارات وأوساخ، كما أن عملية سحقه أثناء المشي -وهو فعل فيه سوء قدر للنعل نفسه- دعت البعض إلى تسميته “مداس”.
بالمجمل، فإن النعل يمكن استبداله بسهولة ويسر، لقلّة سعره؛ لذلك حين تريد أو يريد عاشق/ة الحط والتقليل من شأن الحبيب/ة يقول: “ابدلك مثل أيِّ نعال”، أي بمعنى أنت قليل القيمة، وسهل الاستبدال.
وحتى يكمل النعل ميسرته الرمزية والمادية، كان عليه أن يدخل حقل السياسة في محاولة للعب الدور المراد له رمزياً ومعنوياً.

وفي الواقع، لم يكن دخول النعل في السياسة صعبا ومعقدا، بل أن كثرة استخدامه في الثقافة الشعبية في الشتائم وتنفيس الغضب جعل دخوله إلى الحقل السياسي سلسا وحيويا.
وقد ارتبط النعل بالغضب الاجتماعي، شتماً وفعلاً؛ وأحد أكثر استخدامات المجتمع للنعل التي بقيت حيّة عبر التاريخ هي أهزوجة العراقيين الشهيرة: “نوري سعيد القندرة وصالح جبر قيطانه”، وكان سعيد وجبر أبرز سياسيين في النظام الملكي، وشغل كل منهما منصب رئيس الوزراء.
النعال والبسطال
إبان حكم نظام صدام حسين، المهووس بالحروب والعسكرة، استبدل النعل بالبسطار العسكري.
كانت حقبة البعث حقبة “البسطال” بامتياز، فكثيراً ما استعير الحذاء العسكري في أشكال شتى لرفعه إلى منزلة لا تُدانى، منها أن بسطال الجندي المضحي والمقاتل يساوي البشر، ومنها أن الحياة مع نظام صدام ليس فيها غير الحرب والبساطيل، كما أن أحد استخداماتها كانت للإهانة حيث توضع الرؤوس تحت بساطيل الحزب الحاكم والعائلة التي تمسك زمام السلطة.
انتهت حقبة البسطال البعثي بنعال مدني.

فعام 2003، ضرب العراقيون، نساء ورجالاً، رأس تمثال صدام حسين بالنعل في ساحة الفردوس وسط بغداد، كما ضربت صورته مرات متتالية من أبي تحسين بشحاطة. كان ضرباً أُعلن من خلاله انتهاء عهد صدام إلى الأبد.
لكن حقبة سياسية جديدة بدأت.
الكيشوانية[1] السياسية
بانتهاء حقبة بسطال البعث، فتح أنصار مقتدى الصدر منذ عام 2003 حقبة النعال.
طوال عقدين يُردد الصدريون، كلما بان توتر بينهم وبين الولايات المتحدة الأمريكية، “نعال السيد يسوة امريكا وما بيها“. بعد ذلك، تراشق أعضاء البرلمان والسياسيون العراقيون فيما بيهم بالأحذية في حوادث غير مؤرشفة، وكثيراً أيضاً استخدموا الأحذية لفظاً لتحقير خصومهم، أو حتّى للضغط لتمرير قانون، مثلما فعلت النائبة عالية نصيف التي طيّرت حذاءها باتجاه زميلها النائب سلمان الجميلي عام 2013، وأدت تلك الحادثة إلى إقرار الموازنة المالية للبلاد!
أما فائق الشيخ علي، السياسي المستقل والنائب السابق في البرلمان، فقد أبدى هوساً في استعمال مفردة الحذاء في تصريحاته الصحفية.
“إذا طلعو السنة من العراق بعد ما يسوة نعال”، قال. بينما قارن بين سياسيي النظام الحالي وأحمد حسن البكر، رئيس جمهورية العراق الرابع، ووصف حذاء الأخير بأنه “أطهر” من السياسيين الذين أداروا النظام السياسي بعد الغزو الأمريكي للعراق.
مطلع العام الحالي، وفي أحد اجتماعات قيادات الأحزاب السنية، جرت مشاجرة بين النائب سالم مطر ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي، وانتهت بقول مطر للحلبوسي “اليوم احط القندرة بحلكك (بفمك)”، لتندلع أزمة لم تخمد حتّى الآن.
أحذية لرؤساء الوزراء
داخل أروقة رؤساء الوزراء، افتتح الصحفي منتظر الزيدي عام 2008 الكيشوانية السياسية، فليس ثمة حذاء سياسي في التاريخ الحديث أشهر من حذاء الزيدي الذي قذفه على رئيس الولايات المتحدة جورج بوش، بينما حاول نوري المالكي، رئيس الوزراء آنذاك، صدّه عن ضيفه في القصر الحكومي. بعد ذلك، نال المالكي أحذية ونعلاً رمزية في التظاهرات التي اتسعت في حكمه.
وعندما حاول رؤساء الوزراء الاقتراب من الشارع، كانت الأحذية دائماً بانتظارهم. حيدر العبادي، رئيس الوزراء الأسبق، كانت له حصّته منها. فقد استقبل العبادي بالأحذية في أكثر من موقع، ورمي موكبه بالأحذية أثناء زيارته الكرادة بعد التفجير الدامي في 2016، كما أوقف محتجون في بابل موكبه وضربوه بالأحذية عام 2021.
وفي التظاهرات الغاضبة التي شهدها العراق خلال العقدين الماضيين، كان الحذاء أو النعال حاضرين للنيل من صورة السياسيين ورؤساء الحكومات والوزراء. وعلى الرغم من أن تظاهرات تشرين الأول 2019 كانت تقف على مسافة رفض واحدة من جميع السياسيين، إلا أن عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء آنذاك، نال حصّته الأكبر من الأحذية. ديست صوره كردّ على العنف الذي أشاعه ضد الشبّان العزل، وضُرب وجهه المتجهم في الصور بالنعل مرّات لا تُحصى.



وبالطبع، فإن مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء الأسبق، تلقّى نصيبه من الأحذية أكثر من مرّة، وبأكثر من طريقة. ففور طرح اسمه مرشّحاً لرئاسة الحكومة، ديست صوره بالأحذية والنعل في ساحات الاحتجاج. وبعد مداهمة مقّر كتائب حزب الله في منطقة البعثية واعتقال 11 من عناصرها، خرج هؤلاء بعدها بسرعة، واضعين تحت أقدامهم صورة الكاظمي في مشهد شغل الرأي العام حينها، حيث اعتبرها البعض إهانة لأعلى سلطة تنفيذية في البلاد.
ولا تنتهي قصة الكاظمي مع الأحذية عند هذا الحد، فقد طُرد من تشييع الشاعر مظفر النواب في بغداد بالأحذية التي قُذفت على موكبه حتّى توارى بعيداً عن الأنظار.
أحذية الاحتجاجات
بطبيعة الحال، ليس هنا مؤشر أو تقييم واضح يضعه المواطنون غير المختصين بالحدث السياسي من أجل تقييم أداء عمل الحكومة والبرلمان. فالباحثون عن الخدمات وفرص العمل غير معنيين بذلك التقييم ولا تهمهم سوى انعكاس القرارات السياسية على حياتهم بشكل مباشر، وترتبط عملية تقييم عمل الدولة في العراق بالنسبة لغير المعنيين بمكانين في الجسد، فمرة “هذا تاج رأسك” للذي يعتقدونه في صفّهم، ومرة “هذا نعال” للذين يرون أنه غير مؤهل للسلطة. يضع العراقيون السياسي في هذين المكانين، ولم يتمكنوا من إيجاد مكان لمن لا يحترمونه سوى النعال لارتباطه بالأرض وانخفاض قيمته في دلالية رمزية لا تخلو من الخيال والفنتازيا.
الحال هذه، فإن استخدام الحذاء أو النعل ليس حكراً على السياسيين، لكنها ظاهرة توضح إلى أيِّ حدٍ قد وصلت عملية انفصال المجتمع عن النظام السياسي القائم، الذي لا يتوانى هو الآخر في استخدام شتى الأحذية على طاولات الخلاف السياسي الدائم.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويب؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
ليس على سبيل المزاح أن يرتبط النعل، بكل أشكاله القديمة والجديدة، بالحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية منها، بل هو أمر جاد كل الجدّة في استخدامه فعلاً ولفظاً.
فلِلنَعْلِ حضورٌ واضحٌ وجلي في الذهن الاجتماعي الشعبي، كما أن سيرته لا تغيب عن السياق المتداول. فحين يُريد المرء امتداح أحد على حساب الآخر يستخدم عبارة “تروح فدوة لنعاله/ لقندرته”، وليس بعيداً عن ذلك حين يرغب برفع قيمة أحد أو جعله في مرتبة لا تضاهى تستخدم عبارة “محد يوصل لنعاله/ لقندرته”، كذلك توزع رُتب الشرف الاجتماعي والسياسي على أساس النعل “نعاله يشرفك/يشرفكم”، “نعاله اشرف منهم/اشرف منكم”. وفي حالة عدم الضبط الانفعالي، سرعان ما يقفز النعل من الأرض إلى “فم” المتحدث ليخرج على شكل مخطط له مسبقاً في الذهن، كما لو أن العملية قد حصلت كثيراً قبل ذلك.
العبارات المتداولة كثيرة، ولا يمكن حصرها في سياق ما أو داخل فئة من التوصيفات، لكن الأمهات مثلاً حين يغضبن من فعل ابنائهنَّ يهددن بالنعل، وتملك بعضهن آليات تصويب متقنة، حتى جرى الاعتقاد بأن تطيير النعل تقنية تُعلّم للأمهات اثناء فترة الحمل أو الخطوبة، ومما لا شك فيه أن أقرب اصدقائك حين يغضب منك ستكون من أقرب عبارات الغضب لديه هي “لا يا ابن النعال”، وحين يرغب المرء من الحطّ أو السخرية من أحدهم يستخدم “عاد شلون نعال!”، لكن تبقى إزاحة جدي للكلمة تستحق التوقف، حيث كان يقول لمن يغضبه من الأولاد المرحين “لا يا ابن اليمني”، واليمني هو نوع من النعل كان يستورد من اليمن.
علامة النعل
يستخدم النعل عادة في الحط من القدر ولتوجيه الإهانة وللتقليل من الشأن، ذلك لارتباطه الوثيق بالأرض بمعنى المتدني رمزياً، وهو في الوقت ذاته نقطة الالتصاق بين جسد الإنسان وكل ما على الأرض من قذارات وأوساخ، كما أن عملية سحقه أثناء المشي -وهو فعل فيه سوء قدر للنعل نفسه- دعت البعض إلى تسميته “مداس”.
بالمجمل، فإن النعل يمكن استبداله بسهولة ويسر، لقلّة سعره؛ لذلك حين تريد أو يريد عاشق/ة الحط والتقليل من شأن الحبيب/ة يقول: “ابدلك مثل أيِّ نعال”، أي بمعنى أنت قليل القيمة، وسهل الاستبدال.
وحتى يكمل النعل ميسرته الرمزية والمادية، كان عليه أن يدخل حقل السياسة في محاولة للعب الدور المراد له رمزياً ومعنوياً.


وفي الواقع، لم يكن دخول النعل في السياسة صعبا ومعقدا، بل أن كثرة استخدامه في الثقافة الشعبية في الشتائم وتنفيس الغضب جعل دخوله إلى الحقل السياسي سلسا وحيويا.
وقد ارتبط النعل بالغضب الاجتماعي، شتماً وفعلاً؛ وأحد أكثر استخدامات المجتمع للنعل التي بقيت حيّة عبر التاريخ هي أهزوجة العراقيين الشهيرة: “نوري سعيد القندرة وصالح جبر قيطانه”، وكان سعيد وجبر أبرز سياسيين في النظام الملكي، وشغل كل منهما منصب رئيس الوزراء.
النعال والبسطال
إبان حكم نظام صدام حسين، المهووس بالحروب والعسكرة، استبدل النعل بالبسطار العسكري.
كانت حقبة البعث حقبة “البسطال” بامتياز، فكثيراً ما استعير الحذاء العسكري في أشكال شتى لرفعه إلى منزلة لا تُدانى، منها أن بسطال الجندي المضحي والمقاتل يساوي البشر، ومنها أن الحياة مع نظام صدام ليس فيها غير الحرب والبساطيل، كما أن أحد استخداماتها كانت للإهانة حيث توضع الرؤوس تحت بساطيل الحزب الحاكم والعائلة التي تمسك زمام السلطة.
انتهت حقبة البسطال البعثي بنعال مدني.



فعام 2003، ضرب العراقيون، نساء ورجالاً، رأس تمثال صدام حسين بالنعل في ساحة الفردوس وسط بغداد، كما ضربت صورته مرات متتالية من أبي تحسين بشحاطة. كان ضرباً أُعلن من خلاله انتهاء عهد صدام إلى الأبد.
لكن حقبة سياسية جديدة بدأت.
الكيشوانية[1] السياسية
بانتهاء حقبة بسطال البعث، فتح أنصار مقتدى الصدر منذ عام 2003 حقبة النعال.
طوال عقدين يُردد الصدريون، كلما بان توتر بينهم وبين الولايات المتحدة الأمريكية، “نعال السيد يسوة امريكا وما بيها“. بعد ذلك، تراشق أعضاء البرلمان والسياسيون العراقيون فيما بيهم بالأحذية في حوادث غير مؤرشفة، وكثيراً أيضاً استخدموا الأحذية لفظاً لتحقير خصومهم، أو حتّى للضغط لتمرير قانون، مثلما فعلت النائبة عالية نصيف التي طيّرت حذاءها باتجاه زميلها النائب سلمان الجميلي عام 2013، وأدت تلك الحادثة إلى إقرار الموازنة المالية للبلاد!
أما فائق الشيخ علي، السياسي المستقل والنائب السابق في البرلمان، فقد أبدى هوساً في استعمال مفردة الحذاء في تصريحاته الصحفية.
“إذا طلعو السنة من العراق بعد ما يسوة نعال”، قال. بينما قارن بين سياسيي النظام الحالي وأحمد حسن البكر، رئيس جمهورية العراق الرابع، ووصف حذاء الأخير بأنه “أطهر” من السياسيين الذين أداروا النظام السياسي بعد الغزو الأمريكي للعراق.
مطلع العام الحالي، وفي أحد اجتماعات قيادات الأحزاب السنية، جرت مشاجرة بين النائب سالم مطر ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي، وانتهت بقول مطر للحلبوسي “اليوم احط القندرة بحلكك (بفمك)”، لتندلع أزمة لم تخمد حتّى الآن.
أحذية لرؤساء الوزراء
داخل أروقة رؤساء الوزراء، افتتح الصحفي منتظر الزيدي عام 2008 الكيشوانية السياسية، فليس ثمة حذاء سياسي في التاريخ الحديث أشهر من حذاء الزيدي الذي قذفه على رئيس الولايات المتحدة جورج بوش، بينما حاول نوري المالكي، رئيس الوزراء آنذاك، صدّه عن ضيفه في القصر الحكومي. بعد ذلك، نال المالكي أحذية ونعلاً رمزية في التظاهرات التي اتسعت في حكمه.
وعندما حاول رؤساء الوزراء الاقتراب من الشارع، كانت الأحذية دائماً بانتظارهم. حيدر العبادي، رئيس الوزراء الأسبق، كانت له حصّته منها. فقد استقبل العبادي بالأحذية في أكثر من موقع، ورمي موكبه بالأحذية أثناء زيارته الكرادة بعد التفجير الدامي في 2016، كما أوقف محتجون في بابل موكبه وضربوه بالأحذية عام 2021.
وفي التظاهرات الغاضبة التي شهدها العراق خلال العقدين الماضيين، كان الحذاء أو النعال حاضرين للنيل من صورة السياسيين ورؤساء الحكومات والوزراء. وعلى الرغم من أن تظاهرات تشرين الأول 2019 كانت تقف على مسافة رفض واحدة من جميع السياسيين، إلا أن عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء آنذاك، نال حصّته الأكبر من الأحذية. ديست صوره كردّ على العنف الذي أشاعه ضد الشبّان العزل، وضُرب وجهه المتجهم في الصور بالنعل مرّات لا تُحصى.



وبالطبع، فإن مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء الأسبق، تلقّى نصيبه من الأحذية أكثر من مرّة، وبأكثر من طريقة. ففور طرح اسمه مرشّحاً لرئاسة الحكومة، ديست صوره بالأحذية والنعل في ساحات الاحتجاج. وبعد مداهمة مقّر كتائب حزب الله في منطقة البعثية واعتقال 11 من عناصرها، خرج هؤلاء بعدها بسرعة، واضعين تحت أقدامهم صورة الكاظمي في مشهد شغل الرأي العام حينها، حيث اعتبرها البعض إهانة لأعلى سلطة تنفيذية في البلاد.
ولا تنتهي قصة الكاظمي مع الأحذية عند هذا الحد، فقد طُرد من تشييع الشاعر مظفر النواب في بغداد بالأحذية التي قُذفت على موكبه حتّى توارى بعيداً عن الأنظار.
أحذية الاحتجاجات
بطبيعة الحال، ليس هنا مؤشر أو تقييم واضح يضعه المواطنون غير المختصين بالحدث السياسي من أجل تقييم أداء عمل الحكومة والبرلمان. فالباحثون عن الخدمات وفرص العمل غير معنيين بذلك التقييم ولا تهمهم سوى انعكاس القرارات السياسية على حياتهم بشكل مباشر، وترتبط عملية تقييم عمل الدولة في العراق بالنسبة لغير المعنيين بمكانين في الجسد، فمرة “هذا تاج رأسك” للذي يعتقدونه في صفّهم، ومرة “هذا نعال” للذين يرون أنه غير مؤهل للسلطة. يضع العراقيون السياسي في هذين المكانين، ولم يتمكنوا من إيجاد مكان لمن لا يحترمونه سوى النعال لارتباطه بالأرض وانخفاض قيمته في دلالية رمزية لا تخلو من الخيال والفنتازيا.
الحال هذه، فإن استخدام الحذاء أو النعل ليس حكراً على السياسيين، لكنها ظاهرة توضح إلى أيِّ حدٍ قد وصلت عملية انفصال المجتمع عن النظام السياسي القائم، الذي لا يتوانى هو الآخر في استخدام شتى الأحذية على طاولات الخلاف السياسي الدائم.