القانون رقم (111) في العراق: اصمت! وإلا فأنت مجرم
13 آذار 2023
بدأت السلطة منذ 2003 بتعزيز ترسانتها التشريعية بقوانين تحمي بقاءها على الشكل الجديد الذي صممه الاحتلال الأمريكي، وهو استبدال سلطة الفرد الواحد والحزب الواحد، بنظام يقوم على سلطة التمثيل الهرمي للطائفة والقومية. فهنالك شيعة وسُنّة وكرد وأقليات، وهنالك كتلة سياسية تمثل كل طائفة، وهنالك زعماء يمثلون هذه الكتلة، وهم من يتقاسمون النفوذ والموارد، من خلال السيطرة على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية...
ضمن مجموعة الكنوز الشرقية القديمة في متحف اللوفر، يقفُ تمثالٌ للملكة “نابر-آسو” زوجة أحد ملوك الحضارة العيلامية الذين حكموا العراق القديم، أو ما كانت تعرف ببلاد ما بين النهرين. على قاعدة التمثال نُقشت هذه الكلمات: “من يضع يده على تمثالي، ومن يحطمه، ومن يشوه الكتابة المنقوشة عليه، ومن يمسح اسمي، فلتحل عليه لعنة نابريشا وكيريريشا وآنشوشيناك، حتى يُعدم اسمه، وينقطع نسله، وتأتي عليه قوات بيلشيا، الآلهة العظيمة”. التمثال الذي يعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، عُثر عليه مقطوع الرأس.
في القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد، وتحديداً في صباح التاسع من نيسان 2003، كان أبو تحسين يقف أمام بوابة اللجنة الأولمبية في العاصمة العراقية بغداد، حاملاً بيده اليسرى صورة الرئيس العراقي صدام حسين، الذي سقط نظامه للتو، وبيده الأخرى يحمل نعالاً انهال به ضرباً على وجه الرئيس، الذي يرتدي نظارة شمسية في تلك اللوحة. كان أبو تحسين يضرب بنعاله صورة الرئيس ويصرخ: “تعالوا.. تعالوا عبروا عن مشاعركم، هذه الحرية، هذه التي كنا مكبوتين منها، هذا الذي ظلمنا، الآن رأينا الحرية”.
مواطن عراقي آخر، يرتدي الزي العربي (الدشداشة والشماغ والعقال) يستجيب لنداء أبي تحسين، فيتجه نحو صورة الرئيس التي تتعرض للضرب والشتائم، فيرفع دشداشته من الأمام ويوجه عضوه الذكري إلى فم الرئيس. يثير هذا التصرّف نوبة من الضحك بين الواقفين هناك، بينما يواصل أبو تحسين ضرب صورة الرئيس وهو يصرخ: “هذا الذي قتل أبنائنا، هذا الذي قتل شبابنا”.
قبل ساعات من تلك اللحظة، لم يكن أبو تحسين يحلم أنه سيكون بطل ذلك المشهد الذي تناقلته وسائل الإعلام العالمية، وأصبح على إثره أول عراقي يعبّرعن رأيه بحرية في مكان عام، ولا يخاف من الرفاق الحزبيين، أو جهاز الأمن العام، أو المخابرات التي غيَّبت الكثيرين بتهمة إهانة رئيس الجمهورية، ورفعتهم إلى مشانق الإعدام وفق قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969، الذي ساهم بتشريعه صدام حسين عندما كان نائباً لرئيس الجمهورية، وعدّل بنوده ومواده لتصبح أكثر قسوة، وأخطر على حرية التعبير، عندما صار رئيساً للجمهورية.
تنص المادة 225 من قانون العقوبات العراقي رقم (111) -وفق تعديل عام 1986- على أنْ “يُعاقب بالسجن المؤبد، ومصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة، من أهان بإحدى طرق العلانية رئيس الجمهورية، أو من يقوم مقامه، أو مجلس قيادة الثورة، أو حزب البعث العربي الاشتراكي، أو المجلس الوطني، أو الحكومة، وتكون العقوبة الإعدام إذا كانت الإهانة أو التهجم بشكل سافر، وبقصد إثارة الرأي العام ضد السلطة”.
هذا القانون كان أداة النظام لإشاعة الخوف، وإنزال العقوبة بقسوةٍ لا بكونها عقاباً على جِنحة قضائية، بل باعتبارها تشهيراً بالمُعاقَب ليكون عبرةً للآخرين (الشعب) الذين سيواجهون المصير ذاته فيما لو أقدموا على إهانة الرئيس أو الحزب. وكان التلفزيون الرسمي يبث قرارات الإعدام بلغة مليئة بالتهديد والوعيد والتشهير بكل من “تسوّل له نفسه النيل من قائد الثورة، الرئيس المجاهد صدام حسين حفظه الله ورعاه”.
بعد مرور 15 سنة على ذلك المشهد الراسخ في ذاكرة العراقيين، وفي الذكرى الخامسة عشر على احتلال العراق، تحدّث أبو تحسين مرة أخرى، وقال إنه “غير نادم على ضرب صورة صدام بالنعال، وإذا كان صدام حسين قد تلقى ضربة بنعلي فإنّ الفاسدين الآن بحاجة إلى معمل من النعال لأنهم خرّبوا العراق من جميع النواحي”.
في 16 أيار 2003، حُظر كل شيء يتعلق بحزب البعث ورئيس النظام السابق صدام حسين، وأُنشئت “الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث” بأمر صادر عن سلطة الائتلاف المؤقتة، برئاسة الحاكم الأمريكي المدني بول بريمر، لاجتثاث هيكل حزب البعث في العراق، وإزالة قياداته من مواقع السلطة. وتم وفقاً لذلك حلّ الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى، وطُرد آلاف الموظفين من مؤسسات الدولة المفككة والمنهارة.
بعد ذلك، أصدرت السلطة الجديدة في العراق قانون “الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة” رقم (10) لسنة 2008، بناءً على ما أقرَّه مجلس النواب، وطبقاً لأحكام الفقرة (أولاً) من المادة الحادية والستين من الدستور العراقي المؤقت.
تنص المادة (3) من قانون المساءلة والعدالة على “أولاً: منع عودة حزب البعث فكراً وإدارةً وسياسةً وممارسة، تحت أي مسمى، إلى السلطة أو الحياة العامة في العراق. ثانياً: تطهير مؤسسات القطاع الحكومي، والقطاع المختلط، ومؤسسات المجتمع المدني والمجتمع العراقي، من منظومة حزب البعث تحت أي شكل من الأشكال”.
لكن هذا الحظر والمنع والإلغاء لم يشمل قانون العقوبات رقم (111) الذي يسميه العراقيون بـ”قانون صدام”. وهو قانون يحتوي أيضاً على مواد تقمع حرية التعبير، مثل المادة 226، والمادتين 403 و404. وقد اعتبرت المحكمة الاتحادية في آخر مرة نظرت في الطعن في قانون العقوبات (111)، وكان ذلك في العام 2018، أنه لا يتعارض مع “روح” الدستور الجديد، و”ينسجم مع مبادئ حرية التعبير”، ورفضت المحكمة في ثلاث مناسبات الطعن بهذه المادة، الذي قدمته منظمات مدافعة عن حرية التعبير، وكان تبرير المحكمة الاتحادية في كل مناسبة أن المادة “لا تتنافى ولا تتقاطع مع الدستور”.
تنص المادة 226 على أن “يُعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات أو بالحبس أو الغرامة، من أهان مجلس الأمة، أو الحكومة، أو المحاكم، أو القوات المسلحة، أو غير ذلك من الهيئات النظامية أو السلطات العامة أو المصالح أو الدوائر الرسمية أو شبه الرسمية”… من دون أن تعرّف المادة أو القانون معنى “الإهانة” أو الفعل والقول الذي حين يصدر عن طرف ما فإنه يعد “إهانة” للسلطات.
وفقاً لأحكام هذه المادة، أصدر مجلس القضاء الأعلى، في 2 حزيران 2022، مذكرة اعتقال بحق الكاتب والصحافي سرمد الطائي، على خلفية تصريحات في برنامج “المحايد” الذي تبثه قناة “العراقية” الرسمية، وجاء في مذكرة الاعتقال أنّ “الطائي ارتكب جريمة تنطبق وأحكام المادة 226 من قانون العقوبات العراقي لتعمده إهانة المؤسسة القضائية في برنامج المحايد”. وعلى إثرها حذفت شبكة الإعلام العراقي الحلقة التي ظهر فيها الطائي، وأصدرت “بيان اعتذار” على ما حدث.
“الجريمة” التي ارتكبها الصحافي وأزعجت السلطات العراقية هي مداخلته حول نتائج الانتخابات البرلمانية، وانتقد فيها المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي وقائد فيلق القدس الإيراني السابق قاسم سليماني، وقال خلالها إنَّ “وجود فائق زيدان (رئيس مجلس القضاء الأعلى) يمثل ظهور دكتاتورية جديدة في البلاد، حيث تطال مذكرات الاعتقال أي معترض على رئيس مجلس القضاء”.
تَحرُّك مجلس القضاء الأعلى ورئيسه الذي أصدر بياناً يهاجم فيه الصحافي سرمد الطائي ومقدم البرنامج سعدون محسن ضمد، تزامن مع حملة شنتها مليشيات مسلحة موالية لإيران للتحريض ضدهما، وهددتْ منصات تابعة لتلك المليشيات بالرد على شبكة الإعلام العراقي “على طريقة ربع الله” في إشارة إلى ما قامت به مليشيا “ربع الله” الموالية لإيران من اقتحامات وتدمير لمكاتب قنوات فضائية ووسائل إعلام في بغداد معارِضة للتدخل الإيراني في العراق.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، ففي الفترة ذاتها أوقفت السلطات العراقية بث برنامج “مع ملاّ طلال” الذي يقدمه الإعلامي أحمد ملاّ طلال، وأصدرت أوامر بإلقاء القبض عليه مع الفنان إياد الطائي، إثر مشهد تمثيلي في إحدى حلقات البرنامج تناول الفساد في الجيش العراقي. وكذلك أصدر مجلس القضاء الأعلى، مذكرة إلقاء قبض بحق مقدم برنامج “بوضوح” على تلفزيون “زاكروس”، محمد جبار، وفق المادة 226 من قانون العراقي (111). ووفقاً لهذه المادة أيضاً أنهت شبكة الإعلام العراقي (مؤسسة رسمية) خدمات الصحافي صالح الحمداني بسبب منشور له على “فيسبوك”.
الجدران لها آذانٌ صاغية
“افصل كيبل (Cable) التليفون”، هذه الجملة كانت تعني أن أبي يريد الحديث في السياسة، يقولها وكأنه يطلب مني تنفيذ مهمة سرية. أتذكر عيناه وهما ترفعان حاجبيه الكثيفين للأعلى، ونبرة صوته الخافتة ولكنها حازمة، وملامحه التي توحي بأن عليَّ القيام بالمهمة على أتمِّ وجه، فلا مجال للخطأ، لأنه خطأٌ يكلف المرء حياته، وأبي لا يريد الذهاب إلى سجن أبي غريب، ويصعد هناك على منصة الإعدام بتهمة إهانة الرئيس القائد صدام حسين.
كان العراقيون في عهد صدام حسين يعتقدون أن “الجدران لها آذان” وأن الهاتف الثابت (المنزلي) مراقَب من قبل الحزب، وأي حديث في السياسة أو عن الرئيس القائد أو حزب البعث، يتطلب مجازفة كبيرة، وجسارة لا يجرؤ عليها إلا من استنفد القدرة على السكوت، وتجاوز غضبه الخوف من التهديدات.
في اجتماع متلفز مع قادة الحزب، كان صدام حسين يقول: “إن من يعمل ضد الثورة ستلاحقه الأشباح، وتوقظه حتى وهو في نومه، وحتى لو أنه اعتقد أنّه في قاصة (خزنة) حصينة” وفي ذلك الاجتماع أيضاً هدد “كل من يقف بوجه الثورة، وإن كان عددهم ألف.. أو ألفين.. ثلاثة آلاف.. عشرة آلاف، مهما كان عددهم، أقطع رؤوسهم من غير أن ترجف لي شعرة واحدة، أو يرجف قلبي عليهم”.
هذه الفلسفة المرعبة في القبض على السلطة واحتكارها، وملاحقة كل من يعارضها، تجلّت في حادثة قاعة الخلد الشهيرة التي طرد فيها صدام حسين 68 بعثياً من نخبة رفاقه في الحزب، بتهمة الخيانة والتآمر على قائد الثورة والحزب، وأمر بسجنهم وإعدام 22 منهم، وتتجلى أيضاً بما قاله برزان التكريتي، رئيس جهاز المخابرات العراقية آنذاك في كتابه[1] الذي قال فيه “إن المخابرات العراقية يكفيها فخراً أن المعارض الموجود في واحدة من مقاهي باريس أو براغ، عـندما ينوي انتقادنا، يتلفت يميناً وشمالاً، خوفاً من وجود ضابط مخابرات بجانبه”.
بعد أن يتأكد أبي أنني فصلت كيبل الهاتف الأرضي، المعلق على رفٍّ خشبي في صالة صغيرة عند مدخل المنزل، يذهب إلى صالة استقبال الضيوف الكبيرة (الديوانية)، يغلق الباب خلفه، ولا يسمح لنا بالدخول. وهناك تبدأ جلساته السرية مع أحد أصدقائه الثقات المقربين، وهم ثلاثة فقط: صبار العجاج، والأخوان حميد وشاكر البردة. ولم يحدث أن اجتمعوا كلهم في جلسة واحدة أبداً.
جلسات أبي ورفاقه السرية لم تكن حول تشكيل حزب سياسي معارض، أو التخطيط لمحاولة انقلاب، ولم تكن جلسات ناقدة لنظرية الحكم السياسي. إنهم لا يتمتعون بذلك الطموح حتى. لا شيء من ذلك البتة. فأبي سائق تاكسي، ولا يعرف القراءة والكتابة، ورفاقه كذلك، وجلساتهم السرية تلك كانت للتفريغ عن معاناتهم اليومية بسبب الحصار والفقر، والصعوبة البالغة في توفير لقمة العيش، وانتقاد أعضاء الفرقة الحزبية في الحي، الذين يحصلون على امتيازاتهم من خلال كتابة التقارير عن المواطنين. وبالتأكيد يتخلل تلك الجلسات بعض الشتائم والنكات عن الرئيس وعائلته، التي كان تداولها أخطر وأكثر سرّية من تداول المخدرات.
كانت واحدة من تلك النكات على سبيل المثال: أن مواطناً عراقياً بعد حرب عاصفة الصحراء وسنوات الحصار، كان يمشي ويترنح في الشارع من شدة الجوع والتعب، ويلبس ملابس رثة ويشير إلى سترته المهترئة ويصرخ بأعلى صوته: الله يكون في عون أمريكا.. الله يكون في عون أمريكا. فحاصره رجال الآمن وسألوه ماذا تقصد بهذه الجملة؟ فأجابهم: اذا أحنا أنتصرنا بالحرب وصار بينا هذا الحال! فكيف حال أمريكا التي خسرت الحرب كما يقول الرئيس القائد!
بعد ثلاث سنوات من الحصار، لم يعد أبي مضطراً لتكليفي بمهمة قطع كيبل الهاتف الأرضي، فقد باع خط الهاتف، وكذلك باع التلفاز لرشيد الكردي – البائع المتجول الذي يشتري الثياب والأجهزة المنزلية المستعملة – ليوفر لنا قوت الأيام المقبلة، لكنه استمرّ مع أصدقائه بعقد الجلسات المغلقة للحديث في “السياسة” والضحك على بعض النكات الجديدة عن الرئيس والحزب، وقد نجوا حتى سقط الرئيس وحزبه والبلاد.
في أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي، وتعريفاته السياسية، يتسع معنى “الإهانة” التي ينص عليها قانون العقوبات (111) ليتضمن النكتة أيضاً، وهي واحدة من تفسيرات الإهانة الأكثر شيوعاً التي كان الحزب يحاربها، ولا يتهاون أبداً مع قائلها أو ناقلها أو سامعها أو الساكت عنها.
نكتة الغولدن تيم القاتلة
بينما كان جنود المارينز يسقطون تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس وسط بغداد، كانت السيدة عواطف السلمان ترفع لافتة سوداء على جدار بيتها في حي المنصور، كُتب عليها: “انتقل إلى رحمة الله الشهيد الدكتور هشام السلمان، الذي أُعدم بتاريخ 19-09-1988 بسبب نكتة عن صدام حسين”.
هشام السلمان هو أحد أطباء ما يُسمى بـ”الفريق الذهبي” (THE GOLDEN TEAM) الخاص بصدام حسين وعائلته، وعضو مركز الأطباء الاستشاريين في العراق، وصديق إسماعيل التتار، طبيب الرئيس وعائلته أيضاً. والتتار متخصص بالأمراض الجلدية، وهو مدير مركز الأطباء الاستشاريين في العراق، ونجل حسن التتار رئيس محكمة التمييز في العهد الملكي. وقد أُعدم إسماعيل التتار في القضية ذاتها التي أعدم فيها هشام السلمان، وهي النكتة على الرئيس، بعد أن وضع لهم جهاز الأمن العام أجهزة تنصت في منازلهم، فالتقط الجهاز جلسة بين الصديقين وهما يضحكان على نكتة عن صدام حسين.
بداية أيار 1988 كانت نهاية اثنين من أشهر وألمع أطباء العراق في ذلك الوقت، عندما بث تلفزيون جمهورية العراق الرسمي بياناً على الشعب، تُلي فيه خبر اعتقال الطبيبين من قبل جهاز الأمن العام، وفي أيلول أصدرت محكمة الثورة قرارها بـ “إعدام المجرمَين إسماعيل التتار وهشام السلمان، شنقاً حتى الموت” وفق ملف الإعدام الذي نُشر بعد 2003، واستند الحكم على المادة 225 من قانون العقوبات العراقي رقم (111) ومُنِعت عوائلهم من إظهار الحزن عليهم، أو إقامة مجالس العزاء، وصادر النظام أموالهم المنقولة وغير المنقولة.
القائد الذي تُغضِبه النكتة، ويَقتل بسببها، يقول النكتة ويسمعها أيضاً، ويضحك عليها. والمثير في الأمر أن الديكتاتور يستخدم الخوف مادةً في صناعة النكتة، فهو مثلاً، يحكي نكتة خلال اجتماع متلفز مع أعضاء القيادة القطرية نهاية الثمانيات، وبعد أن يعيد ترتيب جلسته وهو يرتدي كامل قيافته العسكرية، يتحدث عن صاحب دكان لبيع الملابس ويقول لمساعده: “إن جاءتك فرق وزارة الداخلية وسألوك عن هذا النفنوف (الفستان) الذي سعره 500 دينار، قل لهم إن سعره 10 دنانير، وإن قالوا لك: سعره مرتفع. فقل لهم: خذوه ببلاش”. فيضحك الرئيس حتى تهتز كتفيه، ثمّ يضحك أعضاء القيادة القطرية بعده.
في تشريعه للقوانين وتطبيقها بقسوة، كان نظام حزب البعث يكرّس الخوف من خلال اللغة التي يعلن فيها “إنزال القصاص” ليحقق غايتين: ترهيب المجتمع وتهديده من خلال إظهار القسوة في تنفيذ العقوبة، والتشهير بالمُعاقَب وتسقيطه في المجتمع، ووصمه بأوصاف العمالة للخارج، والخيانة، وزعزعة أمن واستقرار الوطن، وإهانة مؤسسات الدولة. وكان الحزب قادراً على فعل ذلك لأنه يمتلك القوة والسلطة لتحقيق ما يسميه النظام بـ”الردع العام”.
ترنيمة نينكاسي وقوانين “الإطار التنسيقي”
في العاشر من تشرين الأول 2021، جرت الانتخابات التشريعية، وكانت نسبة المشاركة فيها “خيبة أمل كبيرة” بالنسبة للأحزاب الإسلامية، أو هي كذلك بالنسبة لزعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق، المقرب من إيران، الذي اعترف إن نسبة المشاركة كانت “أقل من 20 في المئة بقليل”.
لم تفز الأحزاب الإسلامية الموالية لإيران (“الإطار التنسيقي”) بالانتخابات، لكنهم وبعد تعطيل البرلمان واشتباكات مسلحة داخل المنطقة الخضراء مع أنصار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، الفائز بأكبر عدد مقاعد داخل البرلمان، أستطاعوا تشكيل الحكومة وتقاسم السلطة مع الطرفين: السني والكردي، بعد أن سحب مقتدى الصدر نوابه السبعين من البرلمان. وهكذا استعادت الأحزاب الإسلامية والمليشيات المسلحة الموالية لإيران سيطرتها على البرلمان والحكومة، التي أحد وزرائها – وزير التعليم العالي والبحث العلمي – هو نعيم العبودي، الناطق باسم حركة “عصائب أهل الحق”، وهي ميليشيا مسلحة مدعومة من الحرس الثوري الإيراني، ومدْرجة من قبل الولايات المتحدة على لائحة المنظمات الإرهابية.
قيس الخزعلي، زعيم حركة “عصائب أهل الحق”، الذي قاد كتفاً إلى كتف مع نوري المالكي، اختيار شخصية رئيس الوزراء، عرّف خلال لقاء على التلفزيون الرسمي (قناة “العراقية”) شكل العلاقة بين رئيس الوزراء وقادة الإطار التنسيقي على هذا النحو: “إن النقطة الأساسية هي أنه تمّ التمييز بين قرارات الدولة وإدارة الحكومة… يجب ألا يحتكر رئيس الوزراء قرارات الدولة، بل عليه أن يرجع إلى الإطار التنسيقي… لاتخاذ القرارات الاستراتيجية، سواء كانت قرارات سياسية أو اقتصادية أو أمنية… وهنا يصبح رئيس الوزراء كمدير عام”.
في المئة يوم الأولى لحكومة “الإطار التنسيقي” أُعيد تفعيل المواد المثيرة للجدل من قانون العقوبات العراقي (111). وبالإضافة إلى المادة 226، فُعّلت المادتين 403، و404، وشرّع البرلمان العراقي قانون “واردات البلديات” رقم (1) لسنة 2023، الذي تنص المادة (14) فيه على: “أولاً: يُحظر استيراد وتصنيع وبيع المشروبات الكحولية بكافة أنواعها. ثانياً: يُعاقب كل من خالف البند (أولاً) من هذه المادة بغرامة لا تقل عن عشرة ملايين دينار، ولا تزيد على خمسة وعشرين مليون دينار”.
وبينما كان المشرّع العراقي الحديث منهمكاً بصياغة قوانين منع الخمر، كان علماء الآثار من جامعة بنسلفانيا الأميركية وزملائهم من جامعة بيزا الإيطالية، يزيلون التراب في مدينة “لكش” السومرية جنوبي العراق، عن حانة يعود بنائها إلى 2700 سنة قبل الميلاد، تحتوي على نظام لتبريد الجعة، وعلى مقاعد وأوعية فيها بقايا طعام.
بالنسبة للعراقيين القدماء: السومريون، البابليون، الآشوريون، فإن الجعة هي “هدية الآلهة” التي تمنحهم “البهجة، والحياة السعيدة” وهي ترتبط عندهم بالنماء والخصب، ولها آلهة تحرسها وتصنعها وتحفظها، هي “نينكاسي” إلهة الخمر، إبنة إنكي، إله الماء العذب والحكمة، وإنانا، آلهة الحب والجمال والشهوة والخصوبة والحرب.
تقول الأساطير السومرية إن إلهة الخمر “نينكاسي” وُلدت من مياه نقية، وجاء في اللوح الطيني الذي نُقشت عليه “ترنيمة نينكاسي” أنها حين تنقع الشعير، ترتفع أمواج وتنخفض أمواج، وأنها الإلهة التي تحمل بيديها نبتة حلوة، وأنها حين تصب البيرة، فإن صوت انسكابها الممتع يشبه تدفق النهرين (دجلة والفرات). وفي ملحمة جلجامش، عندما انتقل أنكيدو من الحياة البرية (الوحشية) إلى مدينة أوروك، فإنه “تناول الجعة سبع مرات، فتحررت روحه، وراح يهتف بصوت عالٍ، وقد امتلأ جسمه بحسن التكوين، وأشرق وجهه”.
وفي العراق الجديد الذي بات قانون حظر المشروبات الكحولية فيه نافذاً، هنالك أديان وطوائف كالإيزيديين والمسيحيين، يدخل النبيذ في طقوس عباداتهم، وهنالك مسلمون أيضاً موائدهم عامرة بالمشروبات الكحولية، يحبونها وهي من عاداتهم وطقوسهم اليومية.
لم يعد الجهرُ ممكناً
قريباً من تمثاله الذي يرفع نخباً للمارة، في شارع أبي نؤاس، الشاعر الذي قال مرةً “لا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهرُ”، يجلس مجموعة من العراقيين في الحدائق المطلة على نهر دجلة، يتبادلون “المزّة” والأغاني، ويتحدثون عن القانون الجديد الذي يجرّم الندماء، ويلقي بهم في السجن. يقول أحدهم “إنهم يمنعون المشروبات الكحولية لكي يتحكمون في أسعارها بالسوق السوداء، ويغلقون البارات حتى يجبرون الناس للذهاب إلى النوادي الليلية التي تسيطر عليها الميليشيات المسلحة، هنالك الأسعار غالية والربح كبير” رجل آخر يلتفت إليه ويضيف “إنها لعبة مكشوفة، يريدون للمخدرات أن تنتشر في المجتمع، عندما يمنعون المشوربات الروحية، سيلجأ الناس إلى المخدرات، سيتعاطون الكريستال مث الذي يعْبر من إيران وتبيعه المليشيات للشباب”.
كذلك، خلال المئة يوم الأولى لهذه الحكومة، أجّل القضاء العراقي للمرة العاشرة، محاكمة قاتل الباحث العراقي هشام الهاشمي، بضغط من مليشيا “كتائب حزب الله” العراقية التي ينتمي إليها القاتل. وأفرجت محكمة الكرخ الثالثة عن نوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق، بعد أن كفل نفسه، في الدعوى المقامة ضده إثر تسريب صوتي له كان يخطط فيه لتشكيل مليشيات مسلحة تتبع أوامره، وحرّض على العنف ضد الأكراد والسُنَّة وخصومه الشيعة (التيار الصدري) وهاجم مؤسسات الدولة، ووزارتي الدفاع والداخلية، ولم تسْلم من هجومه حتى هيئة الحشد الشعبي المقرّبة من إيران، وقد وصف المجاميع المسلحة التي يتألف منها الحشد الشعبي بـ”أُمّة الجبناء”.
وفي مؤتمر صحافي سوريالي، وقف رئيس الوزراء محمد شياع السوداني محاطاً بأكداس من الأموال “الكاش”، ليعلن أن “نور زهير” مالك الشركات الخمس التي سرقت 3.7 ترليون دينار عراقي (2.5 مليار دولار أمريكي) من أموال هيئة الضرائب، أُطلق سراحه بكفالة لإعادة الأموال إلى الدولة خلال أسبوعين. لكنّ الأسابيع مرّت وتمرُّ وما تزال الأموال هاربة، والسارقون الكبار طلقاء، وما أعيد للدولة مما بات يُعرف بـ”سرقة القرن” هي 182 مليار دينار عراقي (125 مليون دولار أمريكي) فقط، ونُسيت الحادثة التي كانت “منظمة بدر” أكبر المتورطين بها. و”منظمة بدر” هي مليشيا مسلحة زعيمها هادي العامري، أحد قادة “الإطار التنسيقي” الذين اختاروا رئيس الوزراء وتبنّوا تشكيل الحكومة.
في العراق لا يفلت الجميع من السجن، وثمة قضايا أخرى كانت وزارة الداخلية والقضاء أحرص على متابعتها، وإطلاق حملات أمنية وإعلامية ومجتمعية لمحاربتها، ومن أجلها أصدر رئيس مجلس القضاء الأعلى في العراق فائق زيدان “إعماماً” للأجهزة الأمنية والقضائية من أجل الحفاظ على “الذوق العام والأخلاق” وحدد رئيس مجلس القضاء الطريقة اللازمة لمحاربة من يسيء للمواطنين ومؤسسات الدولة وهي “اتخاذ الاجراءات القانونية المشددة بحق من يرتكب تلك الجرائم، وبما يضمن تحقيق الردع العام”.
لكنَّ أحداً لم يقلْ، ولا حتى رئيس مجلس القضاء نفسه، ما هو الذوق العام ومن تكون الأخلاق، ولم تقدم الدولة، التي تمتلك “أدوات العنف الشرعي” أي تعريف لمصطلحي: الذوق العام والأخلاق. لكن رئيس “خلية الإعلام الأمني” في وزارة الداخلية، اللواء سعد معن، قال على التلفزيون الحكومي “إن ريكشن (reaction) الشخص الذي يرى الفعل هو الذي يحدد إن كان هذا الفعل يسيء أو لا يسيء للذوق العام” وضرب مثالاً لذلك، من خلال تجربة أجراها على نفسه، فجاء بملف “المجرم” حسن صجمة، وهو شاب عراقي ألقي القبض عليه، وحُقق معه، وقُدم للمحاكمة، وحكم عليه بالسجن المشدد لمدة سنتين في خمسة أيام فقط.
بدأ اللواء بوصف المحتوى الذي ينشره حسن صجمة على مواقع التواصل الاجتماعي، وقال إنه لا يستطيع قراءة تلك الأسئلة التي يوجهها حسن للشباب والشابات الذين يلتقي بهم في الشارع ويسألهم عن رأيهم ببعض المسائل. لقد بدا اللواء سعد معن وكأنه يريد أن يتقيأ من شدة اشمئزازه من وصف “المحتوى الهابط” الذي يقدمه حسن صجمة.
لم يشفع للشاب حسن أنه ظهر في فيديو يعتذر فيه من الجميع، الذين يحبون محتواه أو الذين لا يحبونه، وقال إنه كان على خطأ بكل الأحوال، وحذف جميع فيدوهاته من الانترنت، ومثله فعل مئات “البلوغرز” و”اليوتيوبرز” العراقيين، بعد حملة شرسة من قبل الأجهزة الأمنية ورجال الدين والغالبية الساحقة من القنوات الفضائية العراقية، التي لم تترك “مؤامرة خارجية” إلا والصقتها بهؤلاء الشباب، وكان كلما يظهر رئيس خلية الإعلام الأمني على قناة فضائية يتهم “صناع المحتوى الهابط” بتلقي أموال من الخارج، وأن الذي يدفعهم هي “جهات خارجية تسعى إلى استهداف العائلة العراقية”.
العودة إلى المخبر السري
ما كان يفعله حسن صجمة وسُجن بسببه سنتين، هو أنه كان يطرح أسئلة على الشباب والمراهقين، من الذكور والإناث، وتكون أجوبتهم هي ما يحلمون به أو ما يريدون أن يكونوا عليه، أو ما يتمنون أن يكونوا عليه، أو أي جواب غير متوقع. وعادةً ما تحرّك هذه الأجوبة – على بساطة طرحها – مياهاً آسنة في الموروث الديني والثقافي، وهي بكل الأحوال آراء شباب ومراهقين طحنت سنواتهم الحروب، لكنها بالنسبة للسلطة ورجال الدين والقبائل، تعتبر “محتوى هابط” ويروّج للرذيلة وهدم المجتمع.
في أحد فيدوهاته، يسأل حسن صجمة فتاة مراهقة: هل تنزعجين من غسل المواعين؟ فترد عليه: “طبعاً! هل خُلقنا لنغسل المواعين وتنظيف البيت؟ والآن يريدون أن يعلموني الطبخ! أنصح كل فتاة تغسل المواعين في الليل لكي لا تتعرض للتوبيخ من أمها في الصباح” ثم يلتقي بفتاة أخرى ويسألها عن فتى أحلامها فتقول له “أهم شيء يمتلك دراجة نارية نوع كاوسكي” ويسأل أخرى عن “الشيء الجاف الذي حين نضعه في الفم يتبلل” وهو قد يكون أي شيء، بدءاً من الطعام وانتهاءً بأي شيء آخر جاف وعندما يوضع في الفم يتبلل. لكن ما يثير الانتباه هو أن حسن صجمة يقول في نهاية كل فيديو ينشره: “هذا كان رأيها، وأنتم متابعيني الكرام ما هو رأيكم؟ اكتبوا لي رأيكم في التعليقات”. كان محتواه رغم بساطته يحفّز على النقاش.
تنص المادة 403 من قانون العقوبات رقم (111) على “يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تقل عن مائتي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من صنع أو استورد أو صدر أو حاز أو أحرز أو نقل بقصد الاستغلال أو التوزيع كتاباً أو مطبوعات أو كتابات أخرى أو رسوماً أو صوراً أو أفلاماً أو رموزاً أو غير ذلك من الأشياء إذا كانت مخلة بالحياء أو الآداب العامة. ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من أعلن عن شيء من ذلك أو عرضه على أنظار الجمهور أو باعه أو أجره أو عرضه للبيع أو الإيجار ولو في غير علانية، وكل من وزّعه أو سلمه للتوزيع بأية وسيلة كانت. ويعتبر ظرفاً مشدداً إذا ارتكبت الجريمة بقصد إفساد الأخلاق”.
وتتبعها المادة 404 التي تنص على “يُعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة أو بغرامة لا تزيد عن مائة دينار كل من جهر بأغانٍ أو أقوال فاحشة أو مخلة بالحياء بنفسه أو بواسطة جهاز آلي وكان ذلك في محل عام”.
على طريقة “المخبر السري” التي كانت شائعة في عهد حزب البعث ونظام صدام حسين، أطلقت وزارة الداخلية منصة ألكترونية اسمها هو فعل أمر: “بلِّغ”، للإبلاغ عن “المحتوى الهابط” في المجتمع، ومن ثمَّ تتخذ أجهزة الأمن إجراءاتها باعتقال المُبَلَّغ عنهم. وتتضمن الاستمارة الالكترونية في تلك المنصة نافذة لعنوان السكن وتفاصيل عن المُبلَّغ عنه، تشبه كثيراً تلك التفاصيل التي كان يمتلئ بها تقرير المخبر السرّي في عهد صدام حسين.
في الأيام الأولى على إطلاق المنصة، وصل عدد التبليغات إلى 90 ألف بلاغ، وانفجرت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بحملة تحريض جماعية ضد “البلوغرز” والويتيوبرز” وشارك في حملة التحريض فنانون وسياسيون ورجال دين وصحافيون ومسؤولون كبار في الدولة وقادة أمن ومليشيات وزعماء قبائل.
إحدى مقدِّمات البرامج الصباحية ظهرت وهي يغمرها الفرح وتشكر وزارة الداخلية لأنها “زرعت الخوف في قلوب هؤلاء البلوغرز واختفوا فجأة من المشهد وصاروا مطارَدين”، وكان حماسها عالياً وهي تدعو المواطنين لكي يبلّغوا عنهم ويساعدوا الأجهزة الأمنية على اعتقالهم، وقناة “العراقية” (التلفزيون الرسمي) اعتبرت أن التبليغ عن أصحاب “المحتوى الهابط” هو بمثابة صدَقة جارية، واتهمت صانعي المحتوى بأنهم “يتلقون أموال من الخارج لهدم المجتمع”.
في محافظة ميسان، جنوبي العراق، التي يحاصر خط الفقر 42 في المئة من سكانها، وتشتهر بكونها من المحافظات الأكثر فقراً في العراق، اشتهر عامل بناء فيها اسمه عبود سكيبة. وسريعاً صار عبود نجمٌ على تطبيق تيك توك. المحتوى الذي يصنعه عبود سكيبة هو الغناء باللهجة الانجليزية الأمريكية، غير أن عبود لا يعرف اللغة الانجليزية، لكنه أتقن “الأكسنت” الأمريكي من خلال التلفزيون. لم يكمل تعليمه، وهو المعيل الوحيد لأسرته، ولم يخطر بباله أن التعبير عن الغناء حتى لو بأسلوب مضحك سيكون تهمةً يُسجن عليها.
وفقاً للمادة 403 من القانون رقم (111) صدر أمر إلقاء قبض على عبود سكيبه بتهمة تقديم “محتوى هابط”، وعندما خرج بفيديو وهو خائف ويسأل باستغراب عن علاقة الغناء العفوي بالمحتوى الهابط، كان يظهر من خلف عبود بيته الذي يعيش فيه مع عائلته المكونة من 7 أفراد. لم يكن بيتاً، كان هيكلاً بلا سقف، تغطيه الصفائح المعدنية (الجينكو)، وتحدث عبود عن همومه الكثيرة، التي كان أصغرها هو عندما يأتي الشتاء، فيخرُّ السقف عليهم، وينامون كلهم في غرفة واحدة.
منذ 2003 بدأت السلطة تعزيز ترسانتها التشريعية بقوانين تحمي بقاءها على الشكل الجديد الذي صممه الاحتلال الأمريكي، وهو استبدال سلطة الفرد الواحد والحزب الواحد، بنظام يقوم على سلطة التمثيل الهرمي للطائفة والقومية، فهنالك شيعة وسُنّة وأكراد وأقليات، وهنالك كتلة سياسية تمثل كل طائفة، وهنالك زعماء يمثلون هذه الكتلة، وهم من يتقاسمون النفوذ والموارد، من خلال السيطرة على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويحمون بقاءهم باستغلال هذه السلطات واحتكارها.
في تموز 2011، قدّم البرلمان قراءة أولى لقانون “جرائم المعلوماتية” الذي وصفته هيومن رايتس ووتش بأنه: “قانون سيء الصياغة، وعقوبات غاشمة تخرق الحق في إجراءات التقاضي السليمة، وتنتهك حرية التعبير”، وجُمّد بعدها بسبب الرفض الشعبي له. لكن حكومة “الإطار التنسيقي” أعادت تنشيط مناقشته في مقدمة للتصويت عليه. وتتضمن مواده عقوبة “السجن المؤبد” لمن يستخدم الانترنت “لأذية سمعة البلاد… أو نشر أو بث أنباء عن أحداث مضللة بهدف إضعاف الثقة في النظام المالي الالكتروني، الوثائق التجارية أو المالية الالكترونية، أو أشياء مشابهة، أو الإضرار بالثقة المالية في الدولة” (المادة 6.3).
ومن روح هذا القانون استخلصت هيئة الإعلام والاتصالات (مؤسسة حكومية) لائحة تنظيم المحتوى الرقمي في العراق، التي تحظر فيها “الإساءة إلى الدولة أو السلطات العامة فيها، أو الأشخاص الطبيعية أو المعنوية في العراق” وتجرّم “التجاوز على الأنبياء والرسل أو الائمة أو المرجعيات أو الرموز الدينية أو المساس بهم أو الإساءة إليهم”.
تُنشر المادة بالتزامن مع “السفير العربي“.
[1] – الصادر عام 1982 بعنوان “مؤامرات اغتيال الرئيس صدام حسين”
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
ضمن مجموعة الكنوز الشرقية القديمة في متحف اللوفر، يقفُ تمثالٌ للملكة “نابر-آسو” زوجة أحد ملوك الحضارة العيلامية الذين حكموا العراق القديم، أو ما كانت تعرف ببلاد ما بين النهرين. على قاعدة التمثال نُقشت هذه الكلمات: “من يضع يده على تمثالي، ومن يحطمه، ومن يشوه الكتابة المنقوشة عليه، ومن يمسح اسمي، فلتحل عليه لعنة نابريشا وكيريريشا وآنشوشيناك، حتى يُعدم اسمه، وينقطع نسله، وتأتي عليه قوات بيلشيا، الآلهة العظيمة”. التمثال الذي يعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، عُثر عليه مقطوع الرأس.
في القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد، وتحديداً في صباح التاسع من نيسان 2003، كان أبو تحسين يقف أمام بوابة اللجنة الأولمبية في العاصمة العراقية بغداد، حاملاً بيده اليسرى صورة الرئيس العراقي صدام حسين، الذي سقط نظامه للتو، وبيده الأخرى يحمل نعالاً انهال به ضرباً على وجه الرئيس، الذي يرتدي نظارة شمسية في تلك اللوحة. كان أبو تحسين يضرب بنعاله صورة الرئيس ويصرخ: “تعالوا.. تعالوا عبروا عن مشاعركم، هذه الحرية، هذه التي كنا مكبوتين منها، هذا الذي ظلمنا، الآن رأينا الحرية”.
مواطن عراقي آخر، يرتدي الزي العربي (الدشداشة والشماغ والعقال) يستجيب لنداء أبي تحسين، فيتجه نحو صورة الرئيس التي تتعرض للضرب والشتائم، فيرفع دشداشته من الأمام ويوجه عضوه الذكري إلى فم الرئيس. يثير هذا التصرّف نوبة من الضحك بين الواقفين هناك، بينما يواصل أبو تحسين ضرب صورة الرئيس وهو يصرخ: “هذا الذي قتل أبنائنا، هذا الذي قتل شبابنا”.
قبل ساعات من تلك اللحظة، لم يكن أبو تحسين يحلم أنه سيكون بطل ذلك المشهد الذي تناقلته وسائل الإعلام العالمية، وأصبح على إثره أول عراقي يعبّرعن رأيه بحرية في مكان عام، ولا يخاف من الرفاق الحزبيين، أو جهاز الأمن العام، أو المخابرات التي غيَّبت الكثيرين بتهمة إهانة رئيس الجمهورية، ورفعتهم إلى مشانق الإعدام وفق قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969، الذي ساهم بتشريعه صدام حسين عندما كان نائباً لرئيس الجمهورية، وعدّل بنوده ومواده لتصبح أكثر قسوة، وأخطر على حرية التعبير، عندما صار رئيساً للجمهورية.
تنص المادة 225 من قانون العقوبات العراقي رقم (111) -وفق تعديل عام 1986- على أنْ “يُعاقب بالسجن المؤبد، ومصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة، من أهان بإحدى طرق العلانية رئيس الجمهورية، أو من يقوم مقامه، أو مجلس قيادة الثورة، أو حزب البعث العربي الاشتراكي، أو المجلس الوطني، أو الحكومة، وتكون العقوبة الإعدام إذا كانت الإهانة أو التهجم بشكل سافر، وبقصد إثارة الرأي العام ضد السلطة”.
هذا القانون كان أداة النظام لإشاعة الخوف، وإنزال العقوبة بقسوةٍ لا بكونها عقاباً على جِنحة قضائية، بل باعتبارها تشهيراً بالمُعاقَب ليكون عبرةً للآخرين (الشعب) الذين سيواجهون المصير ذاته فيما لو أقدموا على إهانة الرئيس أو الحزب. وكان التلفزيون الرسمي يبث قرارات الإعدام بلغة مليئة بالتهديد والوعيد والتشهير بكل من “تسوّل له نفسه النيل من قائد الثورة، الرئيس المجاهد صدام حسين حفظه الله ورعاه”.
بعد مرور 15 سنة على ذلك المشهد الراسخ في ذاكرة العراقيين، وفي الذكرى الخامسة عشر على احتلال العراق، تحدّث أبو تحسين مرة أخرى، وقال إنه “غير نادم على ضرب صورة صدام بالنعال، وإذا كان صدام حسين قد تلقى ضربة بنعلي فإنّ الفاسدين الآن بحاجة إلى معمل من النعال لأنهم خرّبوا العراق من جميع النواحي”.
في 16 أيار 2003، حُظر كل شيء يتعلق بحزب البعث ورئيس النظام السابق صدام حسين، وأُنشئت “الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث” بأمر صادر عن سلطة الائتلاف المؤقتة، برئاسة الحاكم الأمريكي المدني بول بريمر، لاجتثاث هيكل حزب البعث في العراق، وإزالة قياداته من مواقع السلطة. وتم وفقاً لذلك حلّ الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى، وطُرد آلاف الموظفين من مؤسسات الدولة المفككة والمنهارة.
بعد ذلك، أصدرت السلطة الجديدة في العراق قانون “الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة” رقم (10) لسنة 2008، بناءً على ما أقرَّه مجلس النواب، وطبقاً لأحكام الفقرة (أولاً) من المادة الحادية والستين من الدستور العراقي المؤقت.
تنص المادة (3) من قانون المساءلة والعدالة على “أولاً: منع عودة حزب البعث فكراً وإدارةً وسياسةً وممارسة، تحت أي مسمى، إلى السلطة أو الحياة العامة في العراق. ثانياً: تطهير مؤسسات القطاع الحكومي، والقطاع المختلط، ومؤسسات المجتمع المدني والمجتمع العراقي، من منظومة حزب البعث تحت أي شكل من الأشكال”.
لكن هذا الحظر والمنع والإلغاء لم يشمل قانون العقوبات رقم (111) الذي يسميه العراقيون بـ”قانون صدام”. وهو قانون يحتوي أيضاً على مواد تقمع حرية التعبير، مثل المادة 226، والمادتين 403 و404. وقد اعتبرت المحكمة الاتحادية في آخر مرة نظرت في الطعن في قانون العقوبات (111)، وكان ذلك في العام 2018، أنه لا يتعارض مع “روح” الدستور الجديد، و”ينسجم مع مبادئ حرية التعبير”، ورفضت المحكمة في ثلاث مناسبات الطعن بهذه المادة، الذي قدمته منظمات مدافعة عن حرية التعبير، وكان تبرير المحكمة الاتحادية في كل مناسبة أن المادة “لا تتنافى ولا تتقاطع مع الدستور”.
تنص المادة 226 على أن “يُعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات أو بالحبس أو الغرامة، من أهان مجلس الأمة، أو الحكومة، أو المحاكم، أو القوات المسلحة، أو غير ذلك من الهيئات النظامية أو السلطات العامة أو المصالح أو الدوائر الرسمية أو شبه الرسمية”… من دون أن تعرّف المادة أو القانون معنى “الإهانة” أو الفعل والقول الذي حين يصدر عن طرف ما فإنه يعد “إهانة” للسلطات.
وفقاً لأحكام هذه المادة، أصدر مجلس القضاء الأعلى، في 2 حزيران 2022، مذكرة اعتقال بحق الكاتب والصحافي سرمد الطائي، على خلفية تصريحات في برنامج “المحايد” الذي تبثه قناة “العراقية” الرسمية، وجاء في مذكرة الاعتقال أنّ “الطائي ارتكب جريمة تنطبق وأحكام المادة 226 من قانون العقوبات العراقي لتعمده إهانة المؤسسة القضائية في برنامج المحايد”. وعلى إثرها حذفت شبكة الإعلام العراقي الحلقة التي ظهر فيها الطائي، وأصدرت “بيان اعتذار” على ما حدث.
“الجريمة” التي ارتكبها الصحافي وأزعجت السلطات العراقية هي مداخلته حول نتائج الانتخابات البرلمانية، وانتقد فيها المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي وقائد فيلق القدس الإيراني السابق قاسم سليماني، وقال خلالها إنَّ “وجود فائق زيدان (رئيس مجلس القضاء الأعلى) يمثل ظهور دكتاتورية جديدة في البلاد، حيث تطال مذكرات الاعتقال أي معترض على رئيس مجلس القضاء”.
تَحرُّك مجلس القضاء الأعلى ورئيسه الذي أصدر بياناً يهاجم فيه الصحافي سرمد الطائي ومقدم البرنامج سعدون محسن ضمد، تزامن مع حملة شنتها مليشيات مسلحة موالية لإيران للتحريض ضدهما، وهددتْ منصات تابعة لتلك المليشيات بالرد على شبكة الإعلام العراقي “على طريقة ربع الله” في إشارة إلى ما قامت به مليشيا “ربع الله” الموالية لإيران من اقتحامات وتدمير لمكاتب قنوات فضائية ووسائل إعلام في بغداد معارِضة للتدخل الإيراني في العراق.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، ففي الفترة ذاتها أوقفت السلطات العراقية بث برنامج “مع ملاّ طلال” الذي يقدمه الإعلامي أحمد ملاّ طلال، وأصدرت أوامر بإلقاء القبض عليه مع الفنان إياد الطائي، إثر مشهد تمثيلي في إحدى حلقات البرنامج تناول الفساد في الجيش العراقي. وكذلك أصدر مجلس القضاء الأعلى، مذكرة إلقاء قبض بحق مقدم برنامج “بوضوح” على تلفزيون “زاكروس”، محمد جبار، وفق المادة 226 من قانون العراقي (111). ووفقاً لهذه المادة أيضاً أنهت شبكة الإعلام العراقي (مؤسسة رسمية) خدمات الصحافي صالح الحمداني بسبب منشور له على “فيسبوك”.
الجدران لها آذانٌ صاغية
“افصل كيبل (Cable) التليفون”، هذه الجملة كانت تعني أن أبي يريد الحديث في السياسة، يقولها وكأنه يطلب مني تنفيذ مهمة سرية. أتذكر عيناه وهما ترفعان حاجبيه الكثيفين للأعلى، ونبرة صوته الخافتة ولكنها حازمة، وملامحه التي توحي بأن عليَّ القيام بالمهمة على أتمِّ وجه، فلا مجال للخطأ، لأنه خطأٌ يكلف المرء حياته، وأبي لا يريد الذهاب إلى سجن أبي غريب، ويصعد هناك على منصة الإعدام بتهمة إهانة الرئيس القائد صدام حسين.
كان العراقيون في عهد صدام حسين يعتقدون أن “الجدران لها آذان” وأن الهاتف الثابت (المنزلي) مراقَب من قبل الحزب، وأي حديث في السياسة أو عن الرئيس القائد أو حزب البعث، يتطلب مجازفة كبيرة، وجسارة لا يجرؤ عليها إلا من استنفد القدرة على السكوت، وتجاوز غضبه الخوف من التهديدات.
في اجتماع متلفز مع قادة الحزب، كان صدام حسين يقول: “إن من يعمل ضد الثورة ستلاحقه الأشباح، وتوقظه حتى وهو في نومه، وحتى لو أنه اعتقد أنّه في قاصة (خزنة) حصينة” وفي ذلك الاجتماع أيضاً هدد “كل من يقف بوجه الثورة، وإن كان عددهم ألف.. أو ألفين.. ثلاثة آلاف.. عشرة آلاف، مهما كان عددهم، أقطع رؤوسهم من غير أن ترجف لي شعرة واحدة، أو يرجف قلبي عليهم”.
هذه الفلسفة المرعبة في القبض على السلطة واحتكارها، وملاحقة كل من يعارضها، تجلّت في حادثة قاعة الخلد الشهيرة التي طرد فيها صدام حسين 68 بعثياً من نخبة رفاقه في الحزب، بتهمة الخيانة والتآمر على قائد الثورة والحزب، وأمر بسجنهم وإعدام 22 منهم، وتتجلى أيضاً بما قاله برزان التكريتي، رئيس جهاز المخابرات العراقية آنذاك في كتابه[1] الذي قال فيه “إن المخابرات العراقية يكفيها فخراً أن المعارض الموجود في واحدة من مقاهي باريس أو براغ، عـندما ينوي انتقادنا، يتلفت يميناً وشمالاً، خوفاً من وجود ضابط مخابرات بجانبه”.
بعد أن يتأكد أبي أنني فصلت كيبل الهاتف الأرضي، المعلق على رفٍّ خشبي في صالة صغيرة عند مدخل المنزل، يذهب إلى صالة استقبال الضيوف الكبيرة (الديوانية)، يغلق الباب خلفه، ولا يسمح لنا بالدخول. وهناك تبدأ جلساته السرية مع أحد أصدقائه الثقات المقربين، وهم ثلاثة فقط: صبار العجاج، والأخوان حميد وشاكر البردة. ولم يحدث أن اجتمعوا كلهم في جلسة واحدة أبداً.
جلسات أبي ورفاقه السرية لم تكن حول تشكيل حزب سياسي معارض، أو التخطيط لمحاولة انقلاب، ولم تكن جلسات ناقدة لنظرية الحكم السياسي. إنهم لا يتمتعون بذلك الطموح حتى. لا شيء من ذلك البتة. فأبي سائق تاكسي، ولا يعرف القراءة والكتابة، ورفاقه كذلك، وجلساتهم السرية تلك كانت للتفريغ عن معاناتهم اليومية بسبب الحصار والفقر، والصعوبة البالغة في توفير لقمة العيش، وانتقاد أعضاء الفرقة الحزبية في الحي، الذين يحصلون على امتيازاتهم من خلال كتابة التقارير عن المواطنين. وبالتأكيد يتخلل تلك الجلسات بعض الشتائم والنكات عن الرئيس وعائلته، التي كان تداولها أخطر وأكثر سرّية من تداول المخدرات.
كانت واحدة من تلك النكات على سبيل المثال: أن مواطناً عراقياً بعد حرب عاصفة الصحراء وسنوات الحصار، كان يمشي ويترنح في الشارع من شدة الجوع والتعب، ويلبس ملابس رثة ويشير إلى سترته المهترئة ويصرخ بأعلى صوته: الله يكون في عون أمريكا.. الله يكون في عون أمريكا. فحاصره رجال الآمن وسألوه ماذا تقصد بهذه الجملة؟ فأجابهم: اذا أحنا أنتصرنا بالحرب وصار بينا هذا الحال! فكيف حال أمريكا التي خسرت الحرب كما يقول الرئيس القائد!
بعد ثلاث سنوات من الحصار، لم يعد أبي مضطراً لتكليفي بمهمة قطع كيبل الهاتف الأرضي، فقد باع خط الهاتف، وكذلك باع التلفاز لرشيد الكردي – البائع المتجول الذي يشتري الثياب والأجهزة المنزلية المستعملة – ليوفر لنا قوت الأيام المقبلة، لكنه استمرّ مع أصدقائه بعقد الجلسات المغلقة للحديث في “السياسة” والضحك على بعض النكات الجديدة عن الرئيس والحزب، وقد نجوا حتى سقط الرئيس وحزبه والبلاد.
في أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي، وتعريفاته السياسية، يتسع معنى “الإهانة” التي ينص عليها قانون العقوبات (111) ليتضمن النكتة أيضاً، وهي واحدة من تفسيرات الإهانة الأكثر شيوعاً التي كان الحزب يحاربها، ولا يتهاون أبداً مع قائلها أو ناقلها أو سامعها أو الساكت عنها.
نكتة الغولدن تيم القاتلة
بينما كان جنود المارينز يسقطون تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس وسط بغداد، كانت السيدة عواطف السلمان ترفع لافتة سوداء على جدار بيتها في حي المنصور، كُتب عليها: “انتقل إلى رحمة الله الشهيد الدكتور هشام السلمان، الذي أُعدم بتاريخ 19-09-1988 بسبب نكتة عن صدام حسين”.
هشام السلمان هو أحد أطباء ما يُسمى بـ”الفريق الذهبي” (THE GOLDEN TEAM) الخاص بصدام حسين وعائلته، وعضو مركز الأطباء الاستشاريين في العراق، وصديق إسماعيل التتار، طبيب الرئيس وعائلته أيضاً. والتتار متخصص بالأمراض الجلدية، وهو مدير مركز الأطباء الاستشاريين في العراق، ونجل حسن التتار رئيس محكمة التمييز في العهد الملكي. وقد أُعدم إسماعيل التتار في القضية ذاتها التي أعدم فيها هشام السلمان، وهي النكتة على الرئيس، بعد أن وضع لهم جهاز الأمن العام أجهزة تنصت في منازلهم، فالتقط الجهاز جلسة بين الصديقين وهما يضحكان على نكتة عن صدام حسين.
بداية أيار 1988 كانت نهاية اثنين من أشهر وألمع أطباء العراق في ذلك الوقت، عندما بث تلفزيون جمهورية العراق الرسمي بياناً على الشعب، تُلي فيه خبر اعتقال الطبيبين من قبل جهاز الأمن العام، وفي أيلول أصدرت محكمة الثورة قرارها بـ “إعدام المجرمَين إسماعيل التتار وهشام السلمان، شنقاً حتى الموت” وفق ملف الإعدام الذي نُشر بعد 2003، واستند الحكم على المادة 225 من قانون العقوبات العراقي رقم (111) ومُنِعت عوائلهم من إظهار الحزن عليهم، أو إقامة مجالس العزاء، وصادر النظام أموالهم المنقولة وغير المنقولة.
القائد الذي تُغضِبه النكتة، ويَقتل بسببها، يقول النكتة ويسمعها أيضاً، ويضحك عليها. والمثير في الأمر أن الديكتاتور يستخدم الخوف مادةً في صناعة النكتة، فهو مثلاً، يحكي نكتة خلال اجتماع متلفز مع أعضاء القيادة القطرية نهاية الثمانيات، وبعد أن يعيد ترتيب جلسته وهو يرتدي كامل قيافته العسكرية، يتحدث عن صاحب دكان لبيع الملابس ويقول لمساعده: “إن جاءتك فرق وزارة الداخلية وسألوك عن هذا النفنوف (الفستان) الذي سعره 500 دينار، قل لهم إن سعره 10 دنانير، وإن قالوا لك: سعره مرتفع. فقل لهم: خذوه ببلاش”. فيضحك الرئيس حتى تهتز كتفيه، ثمّ يضحك أعضاء القيادة القطرية بعده.
في تشريعه للقوانين وتطبيقها بقسوة، كان نظام حزب البعث يكرّس الخوف من خلال اللغة التي يعلن فيها “إنزال القصاص” ليحقق غايتين: ترهيب المجتمع وتهديده من خلال إظهار القسوة في تنفيذ العقوبة، والتشهير بالمُعاقَب وتسقيطه في المجتمع، ووصمه بأوصاف العمالة للخارج، والخيانة، وزعزعة أمن واستقرار الوطن، وإهانة مؤسسات الدولة. وكان الحزب قادراً على فعل ذلك لأنه يمتلك القوة والسلطة لتحقيق ما يسميه النظام بـ”الردع العام”.
ترنيمة نينكاسي وقوانين “الإطار التنسيقي”
في العاشر من تشرين الأول 2021، جرت الانتخابات التشريعية، وكانت نسبة المشاركة فيها “خيبة أمل كبيرة” بالنسبة للأحزاب الإسلامية، أو هي كذلك بالنسبة لزعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق، المقرب من إيران، الذي اعترف إن نسبة المشاركة كانت “أقل من 20 في المئة بقليل”.
لم تفز الأحزاب الإسلامية الموالية لإيران (“الإطار التنسيقي”) بالانتخابات، لكنهم وبعد تعطيل البرلمان واشتباكات مسلحة داخل المنطقة الخضراء مع أنصار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، الفائز بأكبر عدد مقاعد داخل البرلمان، أستطاعوا تشكيل الحكومة وتقاسم السلطة مع الطرفين: السني والكردي، بعد أن سحب مقتدى الصدر نوابه السبعين من البرلمان. وهكذا استعادت الأحزاب الإسلامية والمليشيات المسلحة الموالية لإيران سيطرتها على البرلمان والحكومة، التي أحد وزرائها – وزير التعليم العالي والبحث العلمي – هو نعيم العبودي، الناطق باسم حركة “عصائب أهل الحق”، وهي ميليشيا مسلحة مدعومة من الحرس الثوري الإيراني، ومدْرجة من قبل الولايات المتحدة على لائحة المنظمات الإرهابية.
قيس الخزعلي، زعيم حركة “عصائب أهل الحق”، الذي قاد كتفاً إلى كتف مع نوري المالكي، اختيار شخصية رئيس الوزراء، عرّف خلال لقاء على التلفزيون الرسمي (قناة “العراقية”) شكل العلاقة بين رئيس الوزراء وقادة الإطار التنسيقي على هذا النحو: “إن النقطة الأساسية هي أنه تمّ التمييز بين قرارات الدولة وإدارة الحكومة… يجب ألا يحتكر رئيس الوزراء قرارات الدولة، بل عليه أن يرجع إلى الإطار التنسيقي… لاتخاذ القرارات الاستراتيجية، سواء كانت قرارات سياسية أو اقتصادية أو أمنية… وهنا يصبح رئيس الوزراء كمدير عام”.
في المئة يوم الأولى لحكومة “الإطار التنسيقي” أُعيد تفعيل المواد المثيرة للجدل من قانون العقوبات العراقي (111). وبالإضافة إلى المادة 226، فُعّلت المادتين 403، و404، وشرّع البرلمان العراقي قانون “واردات البلديات” رقم (1) لسنة 2023، الذي تنص المادة (14) فيه على: “أولاً: يُحظر استيراد وتصنيع وبيع المشروبات الكحولية بكافة أنواعها. ثانياً: يُعاقب كل من خالف البند (أولاً) من هذه المادة بغرامة لا تقل عن عشرة ملايين دينار، ولا تزيد على خمسة وعشرين مليون دينار”.
وبينما كان المشرّع العراقي الحديث منهمكاً بصياغة قوانين منع الخمر، كان علماء الآثار من جامعة بنسلفانيا الأميركية وزملائهم من جامعة بيزا الإيطالية، يزيلون التراب في مدينة “لكش” السومرية جنوبي العراق، عن حانة يعود بنائها إلى 2700 سنة قبل الميلاد، تحتوي على نظام لتبريد الجعة، وعلى مقاعد وأوعية فيها بقايا طعام.
بالنسبة للعراقيين القدماء: السومريون، البابليون، الآشوريون، فإن الجعة هي “هدية الآلهة” التي تمنحهم “البهجة، والحياة السعيدة” وهي ترتبط عندهم بالنماء والخصب، ولها آلهة تحرسها وتصنعها وتحفظها، هي “نينكاسي” إلهة الخمر، إبنة إنكي، إله الماء العذب والحكمة، وإنانا، آلهة الحب والجمال والشهوة والخصوبة والحرب.
تقول الأساطير السومرية إن إلهة الخمر “نينكاسي” وُلدت من مياه نقية، وجاء في اللوح الطيني الذي نُقشت عليه “ترنيمة نينكاسي” أنها حين تنقع الشعير، ترتفع أمواج وتنخفض أمواج، وأنها الإلهة التي تحمل بيديها نبتة حلوة، وأنها حين تصب البيرة، فإن صوت انسكابها الممتع يشبه تدفق النهرين (دجلة والفرات). وفي ملحمة جلجامش، عندما انتقل أنكيدو من الحياة البرية (الوحشية) إلى مدينة أوروك، فإنه “تناول الجعة سبع مرات، فتحررت روحه، وراح يهتف بصوت عالٍ، وقد امتلأ جسمه بحسن التكوين، وأشرق وجهه”.
وفي العراق الجديد الذي بات قانون حظر المشروبات الكحولية فيه نافذاً، هنالك أديان وطوائف كالإيزيديين والمسيحيين، يدخل النبيذ في طقوس عباداتهم، وهنالك مسلمون أيضاً موائدهم عامرة بالمشروبات الكحولية، يحبونها وهي من عاداتهم وطقوسهم اليومية.
لم يعد الجهرُ ممكناً
قريباً من تمثاله الذي يرفع نخباً للمارة، في شارع أبي نؤاس، الشاعر الذي قال مرةً “لا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهرُ”، يجلس مجموعة من العراقيين في الحدائق المطلة على نهر دجلة، يتبادلون “المزّة” والأغاني، ويتحدثون عن القانون الجديد الذي يجرّم الندماء، ويلقي بهم في السجن. يقول أحدهم “إنهم يمنعون المشروبات الكحولية لكي يتحكمون في أسعارها بالسوق السوداء، ويغلقون البارات حتى يجبرون الناس للذهاب إلى النوادي الليلية التي تسيطر عليها الميليشيات المسلحة، هنالك الأسعار غالية والربح كبير” رجل آخر يلتفت إليه ويضيف “إنها لعبة مكشوفة، يريدون للمخدرات أن تنتشر في المجتمع، عندما يمنعون المشوربات الروحية، سيلجأ الناس إلى المخدرات، سيتعاطون الكريستال مث الذي يعْبر من إيران وتبيعه المليشيات للشباب”.
كذلك، خلال المئة يوم الأولى لهذه الحكومة، أجّل القضاء العراقي للمرة العاشرة، محاكمة قاتل الباحث العراقي هشام الهاشمي، بضغط من مليشيا “كتائب حزب الله” العراقية التي ينتمي إليها القاتل. وأفرجت محكمة الكرخ الثالثة عن نوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق، بعد أن كفل نفسه، في الدعوى المقامة ضده إثر تسريب صوتي له كان يخطط فيه لتشكيل مليشيات مسلحة تتبع أوامره، وحرّض على العنف ضد الأكراد والسُنَّة وخصومه الشيعة (التيار الصدري) وهاجم مؤسسات الدولة، ووزارتي الدفاع والداخلية، ولم تسْلم من هجومه حتى هيئة الحشد الشعبي المقرّبة من إيران، وقد وصف المجاميع المسلحة التي يتألف منها الحشد الشعبي بـ”أُمّة الجبناء”.
وفي مؤتمر صحافي سوريالي، وقف رئيس الوزراء محمد شياع السوداني محاطاً بأكداس من الأموال “الكاش”، ليعلن أن “نور زهير” مالك الشركات الخمس التي سرقت 3.7 ترليون دينار عراقي (2.5 مليار دولار أمريكي) من أموال هيئة الضرائب، أُطلق سراحه بكفالة لإعادة الأموال إلى الدولة خلال أسبوعين. لكنّ الأسابيع مرّت وتمرُّ وما تزال الأموال هاربة، والسارقون الكبار طلقاء، وما أعيد للدولة مما بات يُعرف بـ”سرقة القرن” هي 182 مليار دينار عراقي (125 مليون دولار أمريكي) فقط، ونُسيت الحادثة التي كانت “منظمة بدر” أكبر المتورطين بها. و”منظمة بدر” هي مليشيا مسلحة زعيمها هادي العامري، أحد قادة “الإطار التنسيقي” الذين اختاروا رئيس الوزراء وتبنّوا تشكيل الحكومة.
في العراق لا يفلت الجميع من السجن، وثمة قضايا أخرى كانت وزارة الداخلية والقضاء أحرص على متابعتها، وإطلاق حملات أمنية وإعلامية ومجتمعية لمحاربتها، ومن أجلها أصدر رئيس مجلس القضاء الأعلى في العراق فائق زيدان “إعماماً” للأجهزة الأمنية والقضائية من أجل الحفاظ على “الذوق العام والأخلاق” وحدد رئيس مجلس القضاء الطريقة اللازمة لمحاربة من يسيء للمواطنين ومؤسسات الدولة وهي “اتخاذ الاجراءات القانونية المشددة بحق من يرتكب تلك الجرائم، وبما يضمن تحقيق الردع العام”.
لكنَّ أحداً لم يقلْ، ولا حتى رئيس مجلس القضاء نفسه، ما هو الذوق العام ومن تكون الأخلاق، ولم تقدم الدولة، التي تمتلك “أدوات العنف الشرعي” أي تعريف لمصطلحي: الذوق العام والأخلاق. لكن رئيس “خلية الإعلام الأمني” في وزارة الداخلية، اللواء سعد معن، قال على التلفزيون الحكومي “إن ريكشن (reaction) الشخص الذي يرى الفعل هو الذي يحدد إن كان هذا الفعل يسيء أو لا يسيء للذوق العام” وضرب مثالاً لذلك، من خلال تجربة أجراها على نفسه، فجاء بملف “المجرم” حسن صجمة، وهو شاب عراقي ألقي القبض عليه، وحُقق معه، وقُدم للمحاكمة، وحكم عليه بالسجن المشدد لمدة سنتين في خمسة أيام فقط.
بدأ اللواء بوصف المحتوى الذي ينشره حسن صجمة على مواقع التواصل الاجتماعي، وقال إنه لا يستطيع قراءة تلك الأسئلة التي يوجهها حسن للشباب والشابات الذين يلتقي بهم في الشارع ويسألهم عن رأيهم ببعض المسائل. لقد بدا اللواء سعد معن وكأنه يريد أن يتقيأ من شدة اشمئزازه من وصف “المحتوى الهابط” الذي يقدمه حسن صجمة.
لم يشفع للشاب حسن أنه ظهر في فيديو يعتذر فيه من الجميع، الذين يحبون محتواه أو الذين لا يحبونه، وقال إنه كان على خطأ بكل الأحوال، وحذف جميع فيدوهاته من الانترنت، ومثله فعل مئات “البلوغرز” و”اليوتيوبرز” العراقيين، بعد حملة شرسة من قبل الأجهزة الأمنية ورجال الدين والغالبية الساحقة من القنوات الفضائية العراقية، التي لم تترك “مؤامرة خارجية” إلا والصقتها بهؤلاء الشباب، وكان كلما يظهر رئيس خلية الإعلام الأمني على قناة فضائية يتهم “صناع المحتوى الهابط” بتلقي أموال من الخارج، وأن الذي يدفعهم هي “جهات خارجية تسعى إلى استهداف العائلة العراقية”.
العودة إلى المخبر السري
ما كان يفعله حسن صجمة وسُجن بسببه سنتين، هو أنه كان يطرح أسئلة على الشباب والمراهقين، من الذكور والإناث، وتكون أجوبتهم هي ما يحلمون به أو ما يريدون أن يكونوا عليه، أو ما يتمنون أن يكونوا عليه، أو أي جواب غير متوقع. وعادةً ما تحرّك هذه الأجوبة – على بساطة طرحها – مياهاً آسنة في الموروث الديني والثقافي، وهي بكل الأحوال آراء شباب ومراهقين طحنت سنواتهم الحروب، لكنها بالنسبة للسلطة ورجال الدين والقبائل، تعتبر “محتوى هابط” ويروّج للرذيلة وهدم المجتمع.
في أحد فيدوهاته، يسأل حسن صجمة فتاة مراهقة: هل تنزعجين من غسل المواعين؟ فترد عليه: “طبعاً! هل خُلقنا لنغسل المواعين وتنظيف البيت؟ والآن يريدون أن يعلموني الطبخ! أنصح كل فتاة تغسل المواعين في الليل لكي لا تتعرض للتوبيخ من أمها في الصباح” ثم يلتقي بفتاة أخرى ويسألها عن فتى أحلامها فتقول له “أهم شيء يمتلك دراجة نارية نوع كاوسكي” ويسأل أخرى عن “الشيء الجاف الذي حين نضعه في الفم يتبلل” وهو قد يكون أي شيء، بدءاً من الطعام وانتهاءً بأي شيء آخر جاف وعندما يوضع في الفم يتبلل. لكن ما يثير الانتباه هو أن حسن صجمة يقول في نهاية كل فيديو ينشره: “هذا كان رأيها، وأنتم متابعيني الكرام ما هو رأيكم؟ اكتبوا لي رأيكم في التعليقات”. كان محتواه رغم بساطته يحفّز على النقاش.
تنص المادة 403 من قانون العقوبات رقم (111) على “يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تقل عن مائتي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من صنع أو استورد أو صدر أو حاز أو أحرز أو نقل بقصد الاستغلال أو التوزيع كتاباً أو مطبوعات أو كتابات أخرى أو رسوماً أو صوراً أو أفلاماً أو رموزاً أو غير ذلك من الأشياء إذا كانت مخلة بالحياء أو الآداب العامة. ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من أعلن عن شيء من ذلك أو عرضه على أنظار الجمهور أو باعه أو أجره أو عرضه للبيع أو الإيجار ولو في غير علانية، وكل من وزّعه أو سلمه للتوزيع بأية وسيلة كانت. ويعتبر ظرفاً مشدداً إذا ارتكبت الجريمة بقصد إفساد الأخلاق”.
وتتبعها المادة 404 التي تنص على “يُعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة أو بغرامة لا تزيد عن مائة دينار كل من جهر بأغانٍ أو أقوال فاحشة أو مخلة بالحياء بنفسه أو بواسطة جهاز آلي وكان ذلك في محل عام”.
على طريقة “المخبر السري” التي كانت شائعة في عهد حزب البعث ونظام صدام حسين، أطلقت وزارة الداخلية منصة ألكترونية اسمها هو فعل أمر: “بلِّغ”، للإبلاغ عن “المحتوى الهابط” في المجتمع، ومن ثمَّ تتخذ أجهزة الأمن إجراءاتها باعتقال المُبَلَّغ عنهم. وتتضمن الاستمارة الالكترونية في تلك المنصة نافذة لعنوان السكن وتفاصيل عن المُبلَّغ عنه، تشبه كثيراً تلك التفاصيل التي كان يمتلئ بها تقرير المخبر السرّي في عهد صدام حسين.
في الأيام الأولى على إطلاق المنصة، وصل عدد التبليغات إلى 90 ألف بلاغ، وانفجرت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بحملة تحريض جماعية ضد “البلوغرز” والويتيوبرز” وشارك في حملة التحريض فنانون وسياسيون ورجال دين وصحافيون ومسؤولون كبار في الدولة وقادة أمن ومليشيات وزعماء قبائل.
إحدى مقدِّمات البرامج الصباحية ظهرت وهي يغمرها الفرح وتشكر وزارة الداخلية لأنها “زرعت الخوف في قلوب هؤلاء البلوغرز واختفوا فجأة من المشهد وصاروا مطارَدين”، وكان حماسها عالياً وهي تدعو المواطنين لكي يبلّغوا عنهم ويساعدوا الأجهزة الأمنية على اعتقالهم، وقناة “العراقية” (التلفزيون الرسمي) اعتبرت أن التبليغ عن أصحاب “المحتوى الهابط” هو بمثابة صدَقة جارية، واتهمت صانعي المحتوى بأنهم “يتلقون أموال من الخارج لهدم المجتمع”.
في محافظة ميسان، جنوبي العراق، التي يحاصر خط الفقر 42 في المئة من سكانها، وتشتهر بكونها من المحافظات الأكثر فقراً في العراق، اشتهر عامل بناء فيها اسمه عبود سكيبة. وسريعاً صار عبود نجمٌ على تطبيق تيك توك. المحتوى الذي يصنعه عبود سكيبة هو الغناء باللهجة الانجليزية الأمريكية، غير أن عبود لا يعرف اللغة الانجليزية، لكنه أتقن “الأكسنت” الأمريكي من خلال التلفزيون. لم يكمل تعليمه، وهو المعيل الوحيد لأسرته، ولم يخطر بباله أن التعبير عن الغناء حتى لو بأسلوب مضحك سيكون تهمةً يُسجن عليها.
وفقاً للمادة 403 من القانون رقم (111) صدر أمر إلقاء قبض على عبود سكيبه بتهمة تقديم “محتوى هابط”، وعندما خرج بفيديو وهو خائف ويسأل باستغراب عن علاقة الغناء العفوي بالمحتوى الهابط، كان يظهر من خلف عبود بيته الذي يعيش فيه مع عائلته المكونة من 7 أفراد. لم يكن بيتاً، كان هيكلاً بلا سقف، تغطيه الصفائح المعدنية (الجينكو)، وتحدث عبود عن همومه الكثيرة، التي كان أصغرها هو عندما يأتي الشتاء، فيخرُّ السقف عليهم، وينامون كلهم في غرفة واحدة.
منذ 2003 بدأت السلطة تعزيز ترسانتها التشريعية بقوانين تحمي بقاءها على الشكل الجديد الذي صممه الاحتلال الأمريكي، وهو استبدال سلطة الفرد الواحد والحزب الواحد، بنظام يقوم على سلطة التمثيل الهرمي للطائفة والقومية، فهنالك شيعة وسُنّة وأكراد وأقليات، وهنالك كتلة سياسية تمثل كل طائفة، وهنالك زعماء يمثلون هذه الكتلة، وهم من يتقاسمون النفوذ والموارد، من خلال السيطرة على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويحمون بقاءهم باستغلال هذه السلطات واحتكارها.
في تموز 2011، قدّم البرلمان قراءة أولى لقانون “جرائم المعلوماتية” الذي وصفته هيومن رايتس ووتش بأنه: “قانون سيء الصياغة، وعقوبات غاشمة تخرق الحق في إجراءات التقاضي السليمة، وتنتهك حرية التعبير”، وجُمّد بعدها بسبب الرفض الشعبي له. لكن حكومة “الإطار التنسيقي” أعادت تنشيط مناقشته في مقدمة للتصويت عليه. وتتضمن مواده عقوبة “السجن المؤبد” لمن يستخدم الانترنت “لأذية سمعة البلاد… أو نشر أو بث أنباء عن أحداث مضللة بهدف إضعاف الثقة في النظام المالي الالكتروني، الوثائق التجارية أو المالية الالكترونية، أو أشياء مشابهة، أو الإضرار بالثقة المالية في الدولة” (المادة 6.3).
ومن روح هذا القانون استخلصت هيئة الإعلام والاتصالات (مؤسسة حكومية) لائحة تنظيم المحتوى الرقمي في العراق، التي تحظر فيها “الإساءة إلى الدولة أو السلطات العامة فيها، أو الأشخاص الطبيعية أو المعنوية في العراق” وتجرّم “التجاوز على الأنبياء والرسل أو الائمة أو المرجعيات أو الرموز الدينية أو المساس بهم أو الإساءة إليهم”.
تُنشر المادة بالتزامن مع “السفير العربي“.
[1] – الصادر عام 1982 بعنوان “مؤامرات اغتيال الرئيس صدام حسين”