المدينة التي هجم عليها الملثمون: صورٌ متناثرة عن "الثورة"

إيهاب شغيدل

22 شباط 2023

حَمَلة سلاحٍ وباعةُ كلماتٍ مجانية، مجازيون ونحويون، تائبون وسرسرية قدامى، شقاوات ومتحرشون، سوف يُحشرون دفعةً واحدةً في سياق راديكاليّ يحاول أن يهيمن على حياة مدينة كانت تُسمى "الثورة".. المنطقة الأكثر كثافة سكانية في بغداد خلال زمنين.

طفل يلهو قبل عام 2003

كل شيء في تلك المدينة كان حُلواً في أعين ذلك الطفل، اللعب بالطين، الكرات الزجاجية، والموسيقى عندما يتحرّر أحدهم من الأسر.

لقد فُك أسر جارنا، وجاء الطبل والبوق، وبلا أحذية ركضنا حفاة كما لو أننا سنستمع لذلك البوق للمرة الأخيرة. أذكر صناديق البلاستك التي تأتي بها النساء بعد التسوّق، والتي تصبح سيارات مستعارة لنا، نربطها بالحبل ويجرّ أحدنا الآخر.

سوق شعبي يغلق مبكراً ويحتله الصبيان والذباب، الجامع المغلف بالحناء ودهن السيارات، حيث يشغل الفيترية المحال المحاذية لجداره، الملح الذي كان ينبت على السطوح والطابوق القديم، كنا نلحسه ونضحك، والنكات التي كانت الخطاب الرسمي، أسطول من السخرية والمفارقات، عالم من الدُعابة والضحك، حتى كرة القدم في مدينة الثورة لا تشبهها أي كرة تدحرج في مكان آخر، أصابع مليئة بالكدمات، كومة من الأحذية القديمة تصبح حدوداً للهدف، شبان يلعبون لأجل النساء الواقفات على السطوح لا لأجل الوطن أو النادي، كانت كرة القدم لغة العصر، أما المساء فللمقهى أو السيجارة عادة.

وكان للعشاق طعم الشاي ولونه، طعم التبغ والأسى والجفاف، شعرٌ مدهون بالحصار، وسراويل نال منها الغسيل المتكرر، أحذية قديمة لكنها نظيفة، انتظار هناك، موعد في السوق، أو عند رأس الشارع، موعد قرب المشفى، في شارع الداخل، أو في سوق مريدي، أغنية في تسجيلات علي صالح، وأخرى في القلب، الهواء هناك مختلف حيث يختلط مع الظهيرة والطبخ والبصل، بينما ينتظر الجميع ميعاد الغروب، حيث تصعد الأمهات والجدات للدعاء، بصدور مفتوحة تبدأ مخاطبة الله، كان دعاء يبدأ بالرزق ولا ينتهي إلا بالرزق أيضاً.

كل شيء في مدينة الثورة يبعث على الطمأنينة والجوع أيضاً، يا للمفارقة، “يا حسين بضمايرنا” و”جسام يا ضنوتي“، صراع على الميراث، قاعات الطاولة والدومينو وغيرها، ذباب يتكاثر فوق بركة الأوساخ، “عرك فل”، سجائر بالمفرد، سرادق العزاء وصحون التمن واللحم وركض الأطفال خلفها، لا تكفي ثلاثية نجيب محفوظ ولا رباعيات الخيام ولا سداسيات بابل يا بورخيس لوصف لعبة 102، دائرة على الجدار، كرة صغيرة وعداؤون كثر، يتطاير الجميع من تلك الكرة اللعينة، ألعاب الأطفال هي الأكثر جدية، أما الكبار فقد حشر الحصار رأسهم في كيس الخبز بحثاً عن منفذ.

أزواج جدد ينامون على السطح، اشتراكيون يقتسمون العلكة في المقهى من أجل طرد رائحة التبغ، إسلاميون لا يصلون أكثر من الفروض ولا يصومون أكثر من المعتاد، طلاب يخزنون كتبهم في علب الدهن، كلاب سائبة ومجانين وكاسيتات أغانٍ وقصة شعر كاظم الساهر والسن المكسور لغريمه حاتم العراقي، سطوح السكارى في الأعراس وشوارع السكراب والحاجات المستعملة، الفحم والإبرة وأجساد الجدات ذوات الندوب الخضراء، كل شيء كان يبعث في النفس السرور، حتى الجامع الذي كنا نتبوّل في حماماته ونسرق التمر من نخلته الوحيدة، يا لتلك المدينة التي بدّدها النحويون!

‏دولاب الهواء في الأعياد يدور بعد انتهاء فريضة الجوع في رمضان، مدارس نصطاد فيها الحشرات وكتب ممزقة جرّاء سوء الاستخدام، بذلات عسكرية للآباء ورجال بشوارب كثيفة يتجولون في الليل والنهار، حراس ليليون وسراق يبحثون عن قناني الغاز وإطارات السيارات، يبحثون عن الغفلة وضاعوا في ما بعد صلاة الغُفْيلة، علكة كبيرة وصور لاعبي كرة القدم، حناء ونذور وقدور أرز وفاكهة حزينة، يا لهذه المدينة الحلمية التي غلفها البلاغيون بالبنادق والوصايا، السينما كل السينما لا يمكنها تدوين ذلك الرشق بماء الشتاء، التمر المخلوط بالحنطة، تلك الحلوى السعيدة هي العزاء الكبير عندما ينفد السكر، سحب تدور بلا هوادة وبراميل نفط تُخزّن في الحمام، باعة الجبن مع الفجر يأتون من أطراف المدينة، المعدان المرحون الذين تضج حياتهم برائحة الحليب وروث الأبقار.

طيور مدجنة وأخرى غير ذلك، قطط تتثاءب قرب القمامة، وقوارض تجد حياتها في جحور البيوت القديمة، وحيوانات تجد في بيوت “الشروكية” ملاذاً آمناً، السلام الجمهوري، السلام إلى الله وغيرها من دلالات اللطف، أطفال كثر وقابلات على مد البصر، وكم رأيت من العشاق واللصوص والمقامرين هناك! وجوه سعيدة وكالحة للهاربين من الجيش والمدرسة، غبارٌ كثيف ومرايا صغيرة ومسجلات تروض صوت “المنكوب” وكريم منصور، مرحباً أيتها المدينة التي هجم عليها الملثمون في غمرة الفرح بسقوط الكابوس، لقد غابت شمس السكارى والمجانين وجاء الآدمي الجديد بسواده وباجِه العقائدي وسلاحه الوطني، تلاشت تلك المدينة في أنابيب المجاري، أسيء استخدام الله ولم يعد الأوصياء دلالة على الخير فحسب، ضاع العشاق في عزلتهم والتهمتهم وسائد الحيطة والحذر.

صبي وشاب يراقب بعد عام 2003

ما أن مضت السنوات، حتى يبدأ الطفل بالتخلي عن تلك النظرة الحالمة والشعرية، ويكتشف مدى قسوة تلك المشاهد التي اعتقد أنها جميلة وخيالية وساحرة؛ إذ ليس من الجيد أن نلعب بكرة نايلون رخيصة، وليس من الجمال أن نلعب بالحذاء نفسه الذي نذهب به إلى المدرسة. حتى وقوف الشبّان في انتظار النساء العائدات من السوق، سيكتشف أنه مرفوض.

كانت الحياة قاسية وطيبة في الوقت نفسه؛ ليست ثمة تعقيدات، أعراف وتقاليد، وشيء من القانون، والكثير من الكبت. لكن كل ذلك تغير فجأة، لقد حل عصر جديد، عصر يحكم فيه السلاح واللحى كل شيء، سيتخلى الناس عن حياتهم البسيطة والمليئة بالديون والفقر، سيبدأ عصر الصراع على الأراضي والزعامة الاجتماعية والدينية، لقد انطلقت مركبة أخرى غير تلك القديمة، ولا أحد يود أن يتخلف عن الإيقاع الجديد كل الجدة.

لا يمكن مراقبة ما الذي تغيّر في المدينة بعد عام 2003، ولكن عبر إشارات بسيطة، هنا وهناك، يمكن أن تتشكل لديك صورة معينة، صورة يمكن حملها على أنها دليل على الحقل الجديد الذي افتتح في المدينة، حقل حملة السلاح وباعة الكلمات المجانية، المجازيين والنحويين، تائبين وسرسرية قدامى، شقاوات ومتحرشين، سوف يُحشرون دفعة واحدة في سياق راديكالي يحاول أن يهيمن على الحياة.

أول ما تغير عليّ على الأقل: إن جامع السنة في قطاع 25 تغيّر اسمه، وبات جامع الحسن المجتبى؛ لأسباب تتعلق بالكثافة السكانيّة لذوي الأصول الشيعيّة في مدينة الثورة، لكن قبل ذلك تغير اسم المدينة من مدينة الثورة أو صدام إلى مدينة الصدر، وما لم يكن متوقعاً أن تسجيلات علي صالح تحول اسمها إلى تسجيلات علي صالح الإسلامية، وبدأت التسجيلات العريقة التي سجل فيها عشرات المطربين العراقيين منهم: كريم منصور، وعبادي، وعبد فلك، وغيرهم بتسجيل ما يعرف بالصفكات الإسلامية، قبل ذلك بقليل شاع مفهوم “الحنة الاسلامية” وهي حفلة العرس التي تبتعد عن الأغاني والخمر والموسيقى؛ لتصبح إسلامية وخالية من رذيلة، وهذه “الحنة” كان يقيمها بعض الشبّان في زفافهم لالتزامهم الدينيّ، لكنها بعد عام 2003 صارت نمطاً أوحد ولا توجد حنة غير تلك.

بدأ التغيير يطال أسماء المستشفيات والمدارس والمراكز الصحية وغيرها، فتحول مستشفى الجوادر إلى مستشفى الإمام علي ومستشفى القادسية إلى مستشفى الصدر العام، وباتت المدارس أيضاً تأخذ طابعاً دينيّاً ـ ليس على مستوى الاسم فحسب ـ بل بات يفرض الحجاب على الطالبات في المرحلة الابتدائية في درس الدين “الإسلامية” لكن بمرور السنوات صار فرضا في كل الدروس، بدأ الشباب بهجر رأس الشارع ليتكدسوا في باحة الجامع، بدأ عصر التخلي عن كرة القدم قبالة الانضمام للجوامع التي ستبدأ أولى حياتها الواقعية بالحرب ضد القوات المحتلة، لينتهي بها المطاف وهي تحاسب الشبان على الملابس وقصات الشعر وغيرها.

لا يمكن معرفة ما الذي تغيّر، على وجه التحديد، لكن الحياة كانت أكثر حيوية، أكثر دهشة وأُلفة، وبعد أن بدأت قبضة الجماعات العقائدية تصبح أقل قوة لانشغالها بالفساد والصراع السياسي، بدأ عصر الفوضى والتكتك، والعطوانيون الجدد، الإنسانيون الغارقون بالصخب، لقد كانت ردة فعلهم قاسية وحادّة، فصار تمرّدهم هو الميزة التي يشير إليها الميديويون ورواد التيك توك، حتى تشعر أن لا صلة لهم بالمتطرفين، قبل عشر سنوات، ولا صلة لهم بالسرسرية التقليديين وشبان التسعينات الذين لا تنسى تفاصيلهم، وكأن الشبان الحاليين من مدينة أخرى، مدينة لا تحكمها  الأعراف والتقاليد وشبه القانون نفسه، كأنهم ليسوا أبناء للآباء الذي نال منهم التطرف والعنف والموت.

لم تعد تلك المدينة

تغيّرت نظرتي لتلك المدينة، فلم تعد جنة نلعب فيها متى نشاء وننام فيها مطمئنين، لقد تغيّرت بشكل سريع لا يمكن رصده، بني جدار كبير بين مدينة الطفولة وهذه الموجودة الآن، وأعتقد أن هناك جداراً بين المدينة الآن ومدينة 2006 و2007 عندما كانت السيارات المفخخة تمشي مع الناس في الأسواق والمدارس، في الواقع ثمة ثلاث مدن، في قلب مدينة واحدة، ثلاث مدن شهدتها وعاصرتها وعشت فيها، ولا أعرف كم مدينة في قلب تلك المدينة منذ تأسيسها حتى الآن، ربما هناك أكثر من عشر مدن في تلك الرقعة الجغرافية التي تتغير باستمرار كما لو أنها شاشة تلفاز.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

طفل يلهو قبل عام 2003

كل شيء في تلك المدينة كان حُلواً في أعين ذلك الطفل، اللعب بالطين، الكرات الزجاجية، والموسيقى عندما يتحرّر أحدهم من الأسر.

لقد فُك أسر جارنا، وجاء الطبل والبوق، وبلا أحذية ركضنا حفاة كما لو أننا سنستمع لذلك البوق للمرة الأخيرة. أذكر صناديق البلاستك التي تأتي بها النساء بعد التسوّق، والتي تصبح سيارات مستعارة لنا، نربطها بالحبل ويجرّ أحدنا الآخر.

سوق شعبي يغلق مبكراً ويحتله الصبيان والذباب، الجامع المغلف بالحناء ودهن السيارات، حيث يشغل الفيترية المحال المحاذية لجداره، الملح الذي كان ينبت على السطوح والطابوق القديم، كنا نلحسه ونضحك، والنكات التي كانت الخطاب الرسمي، أسطول من السخرية والمفارقات، عالم من الدُعابة والضحك، حتى كرة القدم في مدينة الثورة لا تشبهها أي كرة تدحرج في مكان آخر، أصابع مليئة بالكدمات، كومة من الأحذية القديمة تصبح حدوداً للهدف، شبان يلعبون لأجل النساء الواقفات على السطوح لا لأجل الوطن أو النادي، كانت كرة القدم لغة العصر، أما المساء فللمقهى أو السيجارة عادة.

وكان للعشاق طعم الشاي ولونه، طعم التبغ والأسى والجفاف، شعرٌ مدهون بالحصار، وسراويل نال منها الغسيل المتكرر، أحذية قديمة لكنها نظيفة، انتظار هناك، موعد في السوق، أو عند رأس الشارع، موعد قرب المشفى، في شارع الداخل، أو في سوق مريدي، أغنية في تسجيلات علي صالح، وأخرى في القلب، الهواء هناك مختلف حيث يختلط مع الظهيرة والطبخ والبصل، بينما ينتظر الجميع ميعاد الغروب، حيث تصعد الأمهات والجدات للدعاء، بصدور مفتوحة تبدأ مخاطبة الله، كان دعاء يبدأ بالرزق ولا ينتهي إلا بالرزق أيضاً.

كل شيء في مدينة الثورة يبعث على الطمأنينة والجوع أيضاً، يا للمفارقة، “يا حسين بضمايرنا” و”جسام يا ضنوتي“، صراع على الميراث، قاعات الطاولة والدومينو وغيرها، ذباب يتكاثر فوق بركة الأوساخ، “عرك فل”، سجائر بالمفرد، سرادق العزاء وصحون التمن واللحم وركض الأطفال خلفها، لا تكفي ثلاثية نجيب محفوظ ولا رباعيات الخيام ولا سداسيات بابل يا بورخيس لوصف لعبة 102، دائرة على الجدار، كرة صغيرة وعداؤون كثر، يتطاير الجميع من تلك الكرة اللعينة، ألعاب الأطفال هي الأكثر جدية، أما الكبار فقد حشر الحصار رأسهم في كيس الخبز بحثاً عن منفذ.

أزواج جدد ينامون على السطح، اشتراكيون يقتسمون العلكة في المقهى من أجل طرد رائحة التبغ، إسلاميون لا يصلون أكثر من الفروض ولا يصومون أكثر من المعتاد، طلاب يخزنون كتبهم في علب الدهن، كلاب سائبة ومجانين وكاسيتات أغانٍ وقصة شعر كاظم الساهر والسن المكسور لغريمه حاتم العراقي، سطوح السكارى في الأعراس وشوارع السكراب والحاجات المستعملة، الفحم والإبرة وأجساد الجدات ذوات الندوب الخضراء، كل شيء كان يبعث في النفس السرور، حتى الجامع الذي كنا نتبوّل في حماماته ونسرق التمر من نخلته الوحيدة، يا لتلك المدينة التي بدّدها النحويون!

‏دولاب الهواء في الأعياد يدور بعد انتهاء فريضة الجوع في رمضان، مدارس نصطاد فيها الحشرات وكتب ممزقة جرّاء سوء الاستخدام، بذلات عسكرية للآباء ورجال بشوارب كثيفة يتجولون في الليل والنهار، حراس ليليون وسراق يبحثون عن قناني الغاز وإطارات السيارات، يبحثون عن الغفلة وضاعوا في ما بعد صلاة الغُفْيلة، علكة كبيرة وصور لاعبي كرة القدم، حناء ونذور وقدور أرز وفاكهة حزينة، يا لهذه المدينة الحلمية التي غلفها البلاغيون بالبنادق والوصايا، السينما كل السينما لا يمكنها تدوين ذلك الرشق بماء الشتاء، التمر المخلوط بالحنطة، تلك الحلوى السعيدة هي العزاء الكبير عندما ينفد السكر، سحب تدور بلا هوادة وبراميل نفط تُخزّن في الحمام، باعة الجبن مع الفجر يأتون من أطراف المدينة، المعدان المرحون الذين تضج حياتهم برائحة الحليب وروث الأبقار.

طيور مدجنة وأخرى غير ذلك، قطط تتثاءب قرب القمامة، وقوارض تجد حياتها في جحور البيوت القديمة، وحيوانات تجد في بيوت “الشروكية” ملاذاً آمناً، السلام الجمهوري، السلام إلى الله وغيرها من دلالات اللطف، أطفال كثر وقابلات على مد البصر، وكم رأيت من العشاق واللصوص والمقامرين هناك! وجوه سعيدة وكالحة للهاربين من الجيش والمدرسة، غبارٌ كثيف ومرايا صغيرة ومسجلات تروض صوت “المنكوب” وكريم منصور، مرحباً أيتها المدينة التي هجم عليها الملثمون في غمرة الفرح بسقوط الكابوس، لقد غابت شمس السكارى والمجانين وجاء الآدمي الجديد بسواده وباجِه العقائدي وسلاحه الوطني، تلاشت تلك المدينة في أنابيب المجاري، أسيء استخدام الله ولم يعد الأوصياء دلالة على الخير فحسب، ضاع العشاق في عزلتهم والتهمتهم وسائد الحيطة والحذر.

صبي وشاب يراقب بعد عام 2003

ما أن مضت السنوات، حتى يبدأ الطفل بالتخلي عن تلك النظرة الحالمة والشعرية، ويكتشف مدى قسوة تلك المشاهد التي اعتقد أنها جميلة وخيالية وساحرة؛ إذ ليس من الجيد أن نلعب بكرة نايلون رخيصة، وليس من الجمال أن نلعب بالحذاء نفسه الذي نذهب به إلى المدرسة. حتى وقوف الشبّان في انتظار النساء العائدات من السوق، سيكتشف أنه مرفوض.

كانت الحياة قاسية وطيبة في الوقت نفسه؛ ليست ثمة تعقيدات، أعراف وتقاليد، وشيء من القانون، والكثير من الكبت. لكن كل ذلك تغير فجأة، لقد حل عصر جديد، عصر يحكم فيه السلاح واللحى كل شيء، سيتخلى الناس عن حياتهم البسيطة والمليئة بالديون والفقر، سيبدأ عصر الصراع على الأراضي والزعامة الاجتماعية والدينية، لقد انطلقت مركبة أخرى غير تلك القديمة، ولا أحد يود أن يتخلف عن الإيقاع الجديد كل الجدة.

لا يمكن مراقبة ما الذي تغيّر في المدينة بعد عام 2003، ولكن عبر إشارات بسيطة، هنا وهناك، يمكن أن تتشكل لديك صورة معينة، صورة يمكن حملها على أنها دليل على الحقل الجديد الذي افتتح في المدينة، حقل حملة السلاح وباعة الكلمات المجانية، المجازيين والنحويين، تائبين وسرسرية قدامى، شقاوات ومتحرشين، سوف يُحشرون دفعة واحدة في سياق راديكالي يحاول أن يهيمن على الحياة.

أول ما تغير عليّ على الأقل: إن جامع السنة في قطاع 25 تغيّر اسمه، وبات جامع الحسن المجتبى؛ لأسباب تتعلق بالكثافة السكانيّة لذوي الأصول الشيعيّة في مدينة الثورة، لكن قبل ذلك تغير اسم المدينة من مدينة الثورة أو صدام إلى مدينة الصدر، وما لم يكن متوقعاً أن تسجيلات علي صالح تحول اسمها إلى تسجيلات علي صالح الإسلامية، وبدأت التسجيلات العريقة التي سجل فيها عشرات المطربين العراقيين منهم: كريم منصور، وعبادي، وعبد فلك، وغيرهم بتسجيل ما يعرف بالصفكات الإسلامية، قبل ذلك بقليل شاع مفهوم “الحنة الاسلامية” وهي حفلة العرس التي تبتعد عن الأغاني والخمر والموسيقى؛ لتصبح إسلامية وخالية من رذيلة، وهذه “الحنة” كان يقيمها بعض الشبّان في زفافهم لالتزامهم الدينيّ، لكنها بعد عام 2003 صارت نمطاً أوحد ولا توجد حنة غير تلك.

بدأ التغيير يطال أسماء المستشفيات والمدارس والمراكز الصحية وغيرها، فتحول مستشفى الجوادر إلى مستشفى الإمام علي ومستشفى القادسية إلى مستشفى الصدر العام، وباتت المدارس أيضاً تأخذ طابعاً دينيّاً ـ ليس على مستوى الاسم فحسب ـ بل بات يفرض الحجاب على الطالبات في المرحلة الابتدائية في درس الدين “الإسلامية” لكن بمرور السنوات صار فرضا في كل الدروس، بدأ الشباب بهجر رأس الشارع ليتكدسوا في باحة الجامع، بدأ عصر التخلي عن كرة القدم قبالة الانضمام للجوامع التي ستبدأ أولى حياتها الواقعية بالحرب ضد القوات المحتلة، لينتهي بها المطاف وهي تحاسب الشبان على الملابس وقصات الشعر وغيرها.

لا يمكن معرفة ما الذي تغيّر، على وجه التحديد، لكن الحياة كانت أكثر حيوية، أكثر دهشة وأُلفة، وبعد أن بدأت قبضة الجماعات العقائدية تصبح أقل قوة لانشغالها بالفساد والصراع السياسي، بدأ عصر الفوضى والتكتك، والعطوانيون الجدد، الإنسانيون الغارقون بالصخب، لقد كانت ردة فعلهم قاسية وحادّة، فصار تمرّدهم هو الميزة التي يشير إليها الميديويون ورواد التيك توك، حتى تشعر أن لا صلة لهم بالمتطرفين، قبل عشر سنوات، ولا صلة لهم بالسرسرية التقليديين وشبان التسعينات الذين لا تنسى تفاصيلهم، وكأن الشبان الحاليين من مدينة أخرى، مدينة لا تحكمها  الأعراف والتقاليد وشبه القانون نفسه، كأنهم ليسوا أبناء للآباء الذي نال منهم التطرف والعنف والموت.

لم تعد تلك المدينة

تغيّرت نظرتي لتلك المدينة، فلم تعد جنة نلعب فيها متى نشاء وننام فيها مطمئنين، لقد تغيّرت بشكل سريع لا يمكن رصده، بني جدار كبير بين مدينة الطفولة وهذه الموجودة الآن، وأعتقد أن هناك جداراً بين المدينة الآن ومدينة 2006 و2007 عندما كانت السيارات المفخخة تمشي مع الناس في الأسواق والمدارس، في الواقع ثمة ثلاث مدن، في قلب مدينة واحدة، ثلاث مدن شهدتها وعاصرتها وعشت فيها، ولا أعرف كم مدينة في قلب تلك المدينة منذ تأسيسها حتى الآن، ربما هناك أكثر من عشر مدن في تلك الرقعة الجغرافية التي تتغير باستمرار كما لو أنها شاشة تلفاز.