الاسم: نهر العشار
الحالة: غير مدعو

مرتضى كزار

20 كانون الثاني 2023

"أما أنت يا نهر العشّار فلن تظهر معنا في الصورة، ابق في البيت لن تذهب معنا، تخفّى، لا نريد أن يراك أحد، لا تحرجنا بذبابك والبعوض، ولونك القاتم من الطفيليات والطحالب"..

المدن مثل الوجوه، تبتسم إذا التقطت لها صورة.

خلال الأيام الماضية تموضعت البصرة أمام العدسات، اختار لها الناس، أفراداً وفضائيات، زاوية أنيقة لا تبدي العيوب، المدن لا تكذب ولا تتجمل لكنها تجامل وتبتسم وأنت تأخذ معها صورة، لم تخدع أحداً ولم تحاول اخفاء أورامها وندوبها، لكننا، جميعاً، حاولنا أن نراها من خلال عدسات المراسلين القصيرة الذين حرصوا على غض النظر عن الصورة الكاملة، تجولوا في المولات والمطاعم الفارهة والأرصفة الأنيقة والفنادق خماسية النجوم، فشاهدنا البصرة متمكيجة ومنفوخة الوجنات والشفتين والأرداف، مدينة لا تنام، ليس لأنها مدينة ليلية، إنما لأنها إذا نامت ستصحو في الصباح لتقف أمام المرآة، وتبصر حقيقتها العارية وبشرتها الشاحبة، بعد أن تذوب المساحيق ويسيل الكحل الكاربوني الأسود الذي يلف فضاءها منذ البئر الأولى.

يذكر صاحب كتاب عيون أخبار الأعيان، أن البصريين في منتصف القرن السابع عشر وبعد أن أصابهم الجفاف ساروا جماعات باتجاه الزبير، وتوقفوا للصلاة والابتهال والبكاء والاستسقاء، وتوجهوا نحو القبلة، اعتصروا قلوبهم هناك وفاضت الأرض بالمشاعر والعواطف الصاخبة، فامطرت السماء وسميت هذه البقعة من المدينة بالقبلة، وهي المحلة المعروفة اليوم، وشاءت المفارقة القدرية، أن تجتمع العواطف وتعيد تشكيل نفسها في زماننا هذا وفي البقعة نفسها، فقريباً من محلة القبلة شيدت المدينة الرياضية الجديدة، وملعب جذع النخلة الذي احتضن بطولة كأس الخليج العربي ٢٥، التي أصبحت في الأيام الماضية بطارية عواطف وطنية كبيرة حج إليها العراقيون من الجهات الأربع، يحمل كل واحد منهم عدسة تقول للمدينة: ابتسمي لنأخذ صورة، وإذا كانت الصور لا تقول القصة الحقيقية فالمشاعر الحماسية والآنية تؤلف قصتها الزائفة التي تتبخر بسرعة.

تقول ناقدة الصورة الفنية سوزان سونتاج إنّ الصورة، كل صورة، هي إعلان لنهاية ما. وهذا ينطبق على حال خليجي بصرة، إذ أن النجاح في معظمه ينتهي في الصورة ويبدأ منها، كل شيء كان ناجحاً داخل مربع الصورة أو مستطيلها، وهذا كافٍ جداً لإنهاء الحدث سالماً من الأخطاء، كل شيء كان صورياً جداً، حتى تقنية التشبيه ثلاثي الابعاد التي جسدت مجسمات من حضارات العراق القديمة كانت عبارة عن توليف ضوئي مُستسهل وخادع، يشي بالفخامة لكنه لا يستحضرها، يستحضر صورتها فقط وظلها، وانعكاس الكتروني شفاف وهش، و لم نشاهد كراديس بشرية حاشدة تبرع في رقصة ما أو تشكيل ما كما تجري العادة في افتتاحيات كهذه، بل استعضنا عن الجموع والمجسمات المادية، بالصورة، الصورة الفوتوشوبية القاتلة.

 لم يكن ساتر الصور الإعلانية الذي امتد على طول الشارع المؤدي للمدينة الرياضية وحده من قام بتغطية المساكن العشوائية والسباخ والمستنقعات المتصلة، بل أيضاً رغبتنا في التحكم بما نريد أن نراه، وما نريد أن نريك إياه عن مدينة خجولة، محرجة مما آلت إليه صورتها، طرقوا بابها على عجل وقالوا لها: البسي ما تيسر من الأثواب المستعملة عندنا ضيوف، اصبغي وجهك وشعرك وابتسمي.

فابتسمتْ.

حتى الأمطار شاركت في زفاف العروس المغشوشة، فنزلت لتبلل المدينة وزوّارها، مما ساهم في انحسار الغبار وغسل هواء المدينة الملوث بمخلفات الاستخراج النفطي، الانتهازي، وغير المدروس. الآبار تحبس المدينة وأناسها، تدخل بيوتهم وتطل من شبابيكهم، تمنع الأحياء من التمدد والتنفس، والكلام حتى، كيف تسمع مدينة لا تتوفر فيها بيئة آمنة للصحافة المستقلة والمهنية، مدينة بلا فضائية احترافية ناطقة باسمها، استسلمت لإعلام مركزي بعيد يعاملها بنمطية ويراها من عليائه ترقص على أنغام الهيوة على متن القارب العشّاري، كما في الأغاني.

في وسائل التواصل، استبسلت صفحات مموّلة في الدفاع عن «رجل المدينة القوي»، محافظها الحسّاس، والمرشح السابق لرئاسة الوزراء، وجاهرت بتخوين الأصوات الداعية لالتقاط صورة حقيقية للمدينة، وتخلى الكثيرون عن حيادهم منحازين للصورة الاحتفالية المهيمنة أو خائفين من المزاج السكران للرأي العام الذي لا يريد أن يعكر صفوه أحد بالصورة الحقيقية، ويحب أن ينتشي لأسبوع أو اثنتين بلقطة خيالية غير دائمة، مضحياً بسنوات من المكابدات، لقطة معالجة بالفلاتر المشبعة بالألوان.

رأينا شط العرب، أعرض الأنهار العراقية وقد مارس مضطراً دور البطولة في الصورة المضللة، يجلس في الظلام باسطاً ذراعيه أمام الكاميرات والأعلام والزوّار، تتولى السفن الصغيرة تدوير جرفه الآسن بالخراطيم، بينما يحاول جاهداً اخفاء فروعه الصغيرة التي تصب فيها القاذورات السائلة، فعلى مبعدة سنتمرات قليلة من أطراف الصور التي التقطها الناس ينام نهر العشّار، الذي شق سليمان نظيف باشا في مطلع القرن الماضي شارعاً يحاذيه ويسير معه، ليوصل الشط بالبصرة، وهو نهير رومانسي يذرع مركز البصرة ويتبدد بين شوارعها، استطاع في أيام خليجي بصرة ٢٥ أن ينصاع للأوامر ويتخفى، لأنه لم يعد جميلاً كما كان، فقد قيل عنه في الماضي إنّك إذا قذفت فيه فلساً ستراه يهبط للقاع واضحاً ويلمع.

قالوا له: أما أنت يا نهر العشّار فلن تظهر معنا في الصورة، ابق في البيت لن تذهب معنا، تخفّى، لا نريد أن يراك أحد، لا تحرجنا بذبابك والبعوض، ولونك القاتم من الطفيليات والطحالب.

منذ تظاهرات عام ٢٠١٤ في البصرة وهناك فرمان غير مكتوب لكنه ساري المفعول، جعل من سلطة المدينة حسّاسة للنقد ومتوجسة من الإعلام المهني. وربما ساهم العراقيون في المدن الأخرى في تزييف الصورة، بمؤاخاة الاعلام المركزي وانطباعاتهم الاحتفائية عن أكثر مدينة عراقية مذكورة في الأغنيات والقصائد. كأن المطلوب هو حالة جماعية من فقدان الذاكرة أو تنشيطها بذاكرة جديدة.

في قصة مشهورة للكاتب الأرجنتيني بورخيس، اسمها « فونسو قوي الذاكرة»، يحدث ما حدث للبصرة، وفونسو هذا هو فلاح يسقط من حصانه ذات يوم ويصيب رأسه، وبدلاً من أن يفقد ذاكرته فأن فونسو يصاب بفقدان فقدان الذاكرة، ويصبح شديد الحافظة يتذكر كل شيء، ليتحول ذلك الأمر إلى وبال عليه، فهو يستدعي كل التفاصيل والاسماء والأوقات والجزئيات الصغيرة عن كل شيء وعن كل ما يحدث في حاضره وماضيه، وما أسوأ أن يفقد الانسان نعمة النسيان، إلا أن يفقد ذاكرته كلياً، يتطرف في الحالين، ولا يملك رفاهية أن ينسى ويتسامح في بعض التفاصيل. ما حدث للبصرة هي أنها وجدت نفسها مرغمة على النسيان وهي التي تتذكر كل شيء، أصيب الجميع بفقدان للذاكرة السياسية والتأريخية، وأجبروها على تناسي ملامحها، حتى أنها بدأت تشكك في ذاتها، اتهموها أنها تريد أن تصبح خليجية! مع أنها تتذكر جيداً كيف كانت هي الخليج، وفي ظرف أسبوع واحد اغدقوا عليها عشرات الألقاب والأسماء والنعوت، بينما تتلفت هي متسائلة: أنا؟ هذه أنا؟ لا أظنكم تعرفوني، هل جربت أيها الشاعر الكسول أن تفتح عني كتاباً؟

في آخر الليل، تعترف للجميع، تصرخ في عيون العدسات وحامليها وفي ضيوفها وهواتفهم النقّالة: تلفتوا يمنة أو يسرة، زحزحوا بؤر العدسات قليلاً، بضعة أمتار لتشاهدوني جيداً، هذه ليست أنا.

أكتب وأطالع من النافذة أضواء ملعب الهاسكي لكرة القدم الأمريكية في سياتل، الذي صممته ذات الشركة المصممة لملعب جذع النخلة في مدينة البصرة الرياضية، ينام وادعاً يحلم في ألعاب الخريف القادمة، ينام نظيف اليد غير متورط بالتقاط صورة مضللة لمدينته، أطالعه واقرأ للأخضر بن يوسف:
لا البترولَ أريدُ ولا أميركا

 لا الفيل أريدُ ولا الحمار

اتركْ لي أيها الطيار

بيتي المسقوفَ بالسعف

وقنطرةَ الجذوع

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

المدن مثل الوجوه، تبتسم إذا التقطت لها صورة.

خلال الأيام الماضية تموضعت البصرة أمام العدسات، اختار لها الناس، أفراداً وفضائيات، زاوية أنيقة لا تبدي العيوب، المدن لا تكذب ولا تتجمل لكنها تجامل وتبتسم وأنت تأخذ معها صورة، لم تخدع أحداً ولم تحاول اخفاء أورامها وندوبها، لكننا، جميعاً، حاولنا أن نراها من خلال عدسات المراسلين القصيرة الذين حرصوا على غض النظر عن الصورة الكاملة، تجولوا في المولات والمطاعم الفارهة والأرصفة الأنيقة والفنادق خماسية النجوم، فشاهدنا البصرة متمكيجة ومنفوخة الوجنات والشفتين والأرداف، مدينة لا تنام، ليس لأنها مدينة ليلية، إنما لأنها إذا نامت ستصحو في الصباح لتقف أمام المرآة، وتبصر حقيقتها العارية وبشرتها الشاحبة، بعد أن تذوب المساحيق ويسيل الكحل الكاربوني الأسود الذي يلف فضاءها منذ البئر الأولى.

يذكر صاحب كتاب عيون أخبار الأعيان، أن البصريين في منتصف القرن السابع عشر وبعد أن أصابهم الجفاف ساروا جماعات باتجاه الزبير، وتوقفوا للصلاة والابتهال والبكاء والاستسقاء، وتوجهوا نحو القبلة، اعتصروا قلوبهم هناك وفاضت الأرض بالمشاعر والعواطف الصاخبة، فامطرت السماء وسميت هذه البقعة من المدينة بالقبلة، وهي المحلة المعروفة اليوم، وشاءت المفارقة القدرية، أن تجتمع العواطف وتعيد تشكيل نفسها في زماننا هذا وفي البقعة نفسها، فقريباً من محلة القبلة شيدت المدينة الرياضية الجديدة، وملعب جذع النخلة الذي احتضن بطولة كأس الخليج العربي ٢٥، التي أصبحت في الأيام الماضية بطارية عواطف وطنية كبيرة حج إليها العراقيون من الجهات الأربع، يحمل كل واحد منهم عدسة تقول للمدينة: ابتسمي لنأخذ صورة، وإذا كانت الصور لا تقول القصة الحقيقية فالمشاعر الحماسية والآنية تؤلف قصتها الزائفة التي تتبخر بسرعة.

تقول ناقدة الصورة الفنية سوزان سونتاج إنّ الصورة، كل صورة، هي إعلان لنهاية ما. وهذا ينطبق على حال خليجي بصرة، إذ أن النجاح في معظمه ينتهي في الصورة ويبدأ منها، كل شيء كان ناجحاً داخل مربع الصورة أو مستطيلها، وهذا كافٍ جداً لإنهاء الحدث سالماً من الأخطاء، كل شيء كان صورياً جداً، حتى تقنية التشبيه ثلاثي الابعاد التي جسدت مجسمات من حضارات العراق القديمة كانت عبارة عن توليف ضوئي مُستسهل وخادع، يشي بالفخامة لكنه لا يستحضرها، يستحضر صورتها فقط وظلها، وانعكاس الكتروني شفاف وهش، و لم نشاهد كراديس بشرية حاشدة تبرع في رقصة ما أو تشكيل ما كما تجري العادة في افتتاحيات كهذه، بل استعضنا عن الجموع والمجسمات المادية، بالصورة، الصورة الفوتوشوبية القاتلة.

 لم يكن ساتر الصور الإعلانية الذي امتد على طول الشارع المؤدي للمدينة الرياضية وحده من قام بتغطية المساكن العشوائية والسباخ والمستنقعات المتصلة، بل أيضاً رغبتنا في التحكم بما نريد أن نراه، وما نريد أن نريك إياه عن مدينة خجولة، محرجة مما آلت إليه صورتها، طرقوا بابها على عجل وقالوا لها: البسي ما تيسر من الأثواب المستعملة عندنا ضيوف، اصبغي وجهك وشعرك وابتسمي.

فابتسمتْ.

حتى الأمطار شاركت في زفاف العروس المغشوشة، فنزلت لتبلل المدينة وزوّارها، مما ساهم في انحسار الغبار وغسل هواء المدينة الملوث بمخلفات الاستخراج النفطي، الانتهازي، وغير المدروس. الآبار تحبس المدينة وأناسها، تدخل بيوتهم وتطل من شبابيكهم، تمنع الأحياء من التمدد والتنفس، والكلام حتى، كيف تسمع مدينة لا تتوفر فيها بيئة آمنة للصحافة المستقلة والمهنية، مدينة بلا فضائية احترافية ناطقة باسمها، استسلمت لإعلام مركزي بعيد يعاملها بنمطية ويراها من عليائه ترقص على أنغام الهيوة على متن القارب العشّاري، كما في الأغاني.

في وسائل التواصل، استبسلت صفحات مموّلة في الدفاع عن «رجل المدينة القوي»، محافظها الحسّاس، والمرشح السابق لرئاسة الوزراء، وجاهرت بتخوين الأصوات الداعية لالتقاط صورة حقيقية للمدينة، وتخلى الكثيرون عن حيادهم منحازين للصورة الاحتفالية المهيمنة أو خائفين من المزاج السكران للرأي العام الذي لا يريد أن يعكر صفوه أحد بالصورة الحقيقية، ويحب أن ينتشي لأسبوع أو اثنتين بلقطة خيالية غير دائمة، مضحياً بسنوات من المكابدات، لقطة معالجة بالفلاتر المشبعة بالألوان.

رأينا شط العرب، أعرض الأنهار العراقية وقد مارس مضطراً دور البطولة في الصورة المضللة، يجلس في الظلام باسطاً ذراعيه أمام الكاميرات والأعلام والزوّار، تتولى السفن الصغيرة تدوير جرفه الآسن بالخراطيم، بينما يحاول جاهداً اخفاء فروعه الصغيرة التي تصب فيها القاذورات السائلة، فعلى مبعدة سنتمرات قليلة من أطراف الصور التي التقطها الناس ينام نهر العشّار، الذي شق سليمان نظيف باشا في مطلع القرن الماضي شارعاً يحاذيه ويسير معه، ليوصل الشط بالبصرة، وهو نهير رومانسي يذرع مركز البصرة ويتبدد بين شوارعها، استطاع في أيام خليجي بصرة ٢٥ أن ينصاع للأوامر ويتخفى، لأنه لم يعد جميلاً كما كان، فقد قيل عنه في الماضي إنّك إذا قذفت فيه فلساً ستراه يهبط للقاع واضحاً ويلمع.

قالوا له: أما أنت يا نهر العشّار فلن تظهر معنا في الصورة، ابق في البيت لن تذهب معنا، تخفّى، لا نريد أن يراك أحد، لا تحرجنا بذبابك والبعوض، ولونك القاتم من الطفيليات والطحالب.

منذ تظاهرات عام ٢٠١٤ في البصرة وهناك فرمان غير مكتوب لكنه ساري المفعول، جعل من سلطة المدينة حسّاسة للنقد ومتوجسة من الإعلام المهني. وربما ساهم العراقيون في المدن الأخرى في تزييف الصورة، بمؤاخاة الاعلام المركزي وانطباعاتهم الاحتفائية عن أكثر مدينة عراقية مذكورة في الأغنيات والقصائد. كأن المطلوب هو حالة جماعية من فقدان الذاكرة أو تنشيطها بذاكرة جديدة.

في قصة مشهورة للكاتب الأرجنتيني بورخيس، اسمها « فونسو قوي الذاكرة»، يحدث ما حدث للبصرة، وفونسو هذا هو فلاح يسقط من حصانه ذات يوم ويصيب رأسه، وبدلاً من أن يفقد ذاكرته فأن فونسو يصاب بفقدان فقدان الذاكرة، ويصبح شديد الحافظة يتذكر كل شيء، ليتحول ذلك الأمر إلى وبال عليه، فهو يستدعي كل التفاصيل والاسماء والأوقات والجزئيات الصغيرة عن كل شيء وعن كل ما يحدث في حاضره وماضيه، وما أسوأ أن يفقد الانسان نعمة النسيان، إلا أن يفقد ذاكرته كلياً، يتطرف في الحالين، ولا يملك رفاهية أن ينسى ويتسامح في بعض التفاصيل. ما حدث للبصرة هي أنها وجدت نفسها مرغمة على النسيان وهي التي تتذكر كل شيء، أصيب الجميع بفقدان للذاكرة السياسية والتأريخية، وأجبروها على تناسي ملامحها، حتى أنها بدأت تشكك في ذاتها، اتهموها أنها تريد أن تصبح خليجية! مع أنها تتذكر جيداً كيف كانت هي الخليج، وفي ظرف أسبوع واحد اغدقوا عليها عشرات الألقاب والأسماء والنعوت، بينما تتلفت هي متسائلة: أنا؟ هذه أنا؟ لا أظنكم تعرفوني، هل جربت أيها الشاعر الكسول أن تفتح عني كتاباً؟

في آخر الليل، تعترف للجميع، تصرخ في عيون العدسات وحامليها وفي ضيوفها وهواتفهم النقّالة: تلفتوا يمنة أو يسرة، زحزحوا بؤر العدسات قليلاً، بضعة أمتار لتشاهدوني جيداً، هذه ليست أنا.

أكتب وأطالع من النافذة أضواء ملعب الهاسكي لكرة القدم الأمريكية في سياتل، الذي صممته ذات الشركة المصممة لملعب جذع النخلة في مدينة البصرة الرياضية، ينام وادعاً يحلم في ألعاب الخريف القادمة، ينام نظيف اليد غير متورط بالتقاط صورة مضللة لمدينته، أطالعه واقرأ للأخضر بن يوسف:
لا البترولَ أريدُ ولا أميركا

 لا الفيل أريدُ ولا الحمار

اتركْ لي أيها الطيار

بيتي المسقوفَ بالسعف

وقنطرةَ الجذوع