الناصرية تعود إلى "الجفقيم" و"الطابوق": سلاح أمام هجمات التراب
15 كانون الثاني 2023
في مدينة الناصرية، التي تعصف بها الهجمات الترابيّة بمعدل نصف أيام السنة، فإن على السكان إشهار سلاح يجعل حياتهم أقلّ صفاراً وغباراً.. هكذا بدأت العودة إلى "الجفقيم" و"الطابوق".. واجهات الناصرية تحكي قصة جديدة عن صراع الناس مع تغير المناخ...
فكرة تصميم الواجهة كانت مختمرة إلى حد كبير في ذهن الحاج راجي محسن الذي انتهى للتو من بناء منزله في حي سومر وسط مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار.
كانت عينا محسن تتفحصان واجهات المنازل المجاورة في الزقاق كلما دخل المنطقة لمتابعة البناء، وقد قرر أن يكون منزله جزءاً من النسق.
تتصف أغلبية المنازل هناك بأنها ذات واجهة فخارية صفراء، غير مكسوة بألوان تعاند الطبيعة في مدينة تكر عليها الأتربة أكثر مما تفر.
ولكي يحمي وجه منزله من زوابع التراب، اختار محسن التسلح بسلاح جيرانه، فبنى الواجهة بمادة الطابوق (الآجر) الفخاري الأصفر.
“هذا اللون قابل للتنظيف ويقاوم الظروف المناخية سنوات طويلة” قال لنا.
احترازات قديمة
ورث أهالي الناصرية طراز العمارة الفخارية منذ أكثر من 150 سنة عندما تم تأسيس المدينة عام 1869 وتسميتها تيمناً بالشيخ ناصر باشا السعدون أمير قبيلة المنتفق آنذاك.
وبعد أن صمم المهندس البلجيكي جولس تيلي المدينة الجديدة على شكل مربع تشقه طرق متقاطعة باستقامة متعامدة على بعضها، راح البنّاؤون يبنون المنازل والمباني بطابوق أصفر اللون يزينه خشب “الجاوي”.
يبدو أن الأجداد كانوا متأهبين لغارات المناخ.
على الرغم من اندثار معظم منازلهم، إلا أن المنازل الصامدة منها البالغ عددها 70 منزلاً تشهد لأهل هذا الزمان بأن أسلافهم حافظوا على واجهاتها بالفطنة والطابوق.
ولذلك يفتخر مرتضى أحمد بأن المنزل الذي ورثه عن أبيه في حي الشرقية ظل نضيراً حتى بعد مرور عشرات السنوات على بنائه.
ويحرص مرتضى يومياً على مراقبة الشعاع الخافت للشمس المقتربة من المغيب وهو يمنح واجهة منزله منظراً “يشبه مناظر المدن الذهبية في الأفلام الخيالية” كما يقول.
لا تقف مواد الواجهات الطابوقية على قدم المساواة، فبعضها للأغنياء والآخر للفقراء.
يستخدم الأغنياء في بناء واجهات منازلهم نوعاً من الطابوق يسمى “جفقيم”، وهو مرتفع السعر إلى حد ما ولا تستطيع الطبقات الكادحة تحمل تكاليفه.
يلجأ الفقراء إلى استخدام الطابوق العادي في بناء الواجهات.
أطلعنا البنّاء عايد كاظم على بعض تفاصيل واجهات الجفقيم وأسعارها ومدة إنجازها.
يستغرق بناء واجهة المنزل 30 يوماً في المعدل، ويكلف المتر المربع الواحد 50 ألف دينار (نحو 32 دولاراً).
“هذا العمل يتقنه عدد قليل جداً من الأسطوات لأنه دقيق جداً” قال كاظم.
يبنى الجفقيم بقياسات تسمى “البندة”، وهي بهيأة حزوز وفراغات محددة بين طابوقة وأخرى لتظهر الواجهة ذات طراز معماري رفيع.
يتم استيراد الجفقيم من إيران والصين ودول أخرى ويباع في السوق العراقية بسعر 550 ألف دينار (344 دولاراً) لكل ألف طابوقة.
تكفي الألف طابوقة لإكمال 16 متراً مربعاً من الواجهة.
ينظر الفقراء إلى هذه المبالغ على أنها ترف يمكن الاستغناء عنه واستبداله باحتياجات منزلية أكثر أهمية.
لذا تُشاهد واجهات الجفقيم في أحياء تعدّ راقية في الناصرية مثل “المتنزه” و”الإدارة المحلية” و”الاقتصاديين”.
الجميع يفكر بالأتربة
بغض النظر عن الطابوق المستخدم في تشييد الواجهات، يشترك سكان ذي قار في الرغبة بتحجيم أضرار الأتربة.
ففي محافظة شهدت عواصف ترابية على مدار 147 يوماً من عام 2021 و150 يوماً من عام 2022، لا بد من اللجوء إلى وسائل التأقلم.
يعزو علي طارق، مدير دائرة الأنواء الجوية في ذي قار، سبب كثرة العواصف الترابية إلى انحسار الأمطار والتغيرات المناخية.
في الشتاء الماضي مثلاً، كانت كميات الأمطار التي هطلت على المحافظة لا تتجاوز 32 مليمتراً، وهي كميات ضئيلة.
“لم يحدث أن تدنت الأمطار إلى هذا المستوى منذ عام 1964″، قال طارق.
تحرس الأمطار أبواب مدن ذي قار من عواصف التراب، وعندما تغيب تفتك تلك العواصف القادمة من صحارى السعودية والأردن وسوريا ومنطقة الكطيعة على الحدود مع محافظة المثنى، بواجهات المباني وكل شيء.
طموحات أبسط
أولئك هم قاطنو الأحياء العشوائية.
إزاء الاهتمام بالواجهات ومدى تحملها الظروف المناخية، يقضي عدد كبير من السكان أيامهم وهم يحلمون بمساكن نظامية أياً كانت واجهاتها.
ينتشر هؤلاء ضمن 132 موقعاً تضم نحو 37 ألف منزل أغلبها مبني بمادة “البلوك” الإسمنتي ومسقوف بالحديد والخشب.
ومع أن دائرة بلدية الناصرية تضم شعبة لتنظيم المدن، إلا أنها ما زالت حائرة في التعامل مع الأحياء العشوائية التي تمثل مشكلة معقدة في عموم العراق.
وعلى أي حال، لا تتدخل البلدية في تحديد أشكال واجهات المنازل لعدم وجود قانون بهذا الشأن.
“القوانين النافذة تركز على تحديد مسافة البناء عن الشارع العام بحدود مترين ونصف متر أرضياً و30 سم ارتفاعاً عن مستوى تبليط الشارع” قال حيدر ياسين مدير شعبة تنظيم المدن.
لكن المشترين يركزون أيضاً على الجفقيم عندما يقبلون على شراء منزل، فهو مرغوب ويحرّك السعر نحو الأعلى.
أخبرنا حكمت والي، صاحب مكتب عقارات في الناصرية، أن واجهات الجفقيم مرغوبة أكثر من الواجهات الحجرية.
“ذلك أن الجفقيم يمكن تبديله مستقبلاً ويتلاءم أكثر مع الجو” قال والي.
بعدما أجرى حديثاً مع أحد أصحاب العقارات، علم الحاج راجي محسن أن اختياره الواجهة الطابوقية كان صائباً لسبب آخر يتعلق بأذواق الزبائن وتفضيلاتهم إذا فّكر ببيع منزله في المستقبل.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
مدارس مُهجَّرة: لماذا لن ينتهي "الدوام المزدوج" و"الاكتظاظ" في العراق؟
10 ديسمبر 2024
الهيدروجين الأزرق والشمس.. عن بدائل النفط "الممكنة" في العراق
07 ديسمبر 2024
الأشجار والدولار على المحكّ في سنجار
03 ديسمبر 2024
الصيادون يبيعون "الآرو".. الوجه القاسي للتغيُّر المناخي على سكان الأهوار
28 نوفمبر 2024
فكرة تصميم الواجهة كانت مختمرة إلى حد كبير في ذهن الحاج راجي محسن الذي انتهى للتو من بناء منزله في حي سومر وسط مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار.
كانت عينا محسن تتفحصان واجهات المنازل المجاورة في الزقاق كلما دخل المنطقة لمتابعة البناء، وقد قرر أن يكون منزله جزءاً من النسق.
تتصف أغلبية المنازل هناك بأنها ذات واجهة فخارية صفراء، غير مكسوة بألوان تعاند الطبيعة في مدينة تكر عليها الأتربة أكثر مما تفر.
ولكي يحمي وجه منزله من زوابع التراب، اختار محسن التسلح بسلاح جيرانه، فبنى الواجهة بمادة الطابوق (الآجر) الفخاري الأصفر.
“هذا اللون قابل للتنظيف ويقاوم الظروف المناخية سنوات طويلة” قال لنا.
احترازات قديمة
ورث أهالي الناصرية طراز العمارة الفخارية منذ أكثر من 150 سنة عندما تم تأسيس المدينة عام 1869 وتسميتها تيمناً بالشيخ ناصر باشا السعدون أمير قبيلة المنتفق آنذاك.
وبعد أن صمم المهندس البلجيكي جولس تيلي المدينة الجديدة على شكل مربع تشقه طرق متقاطعة باستقامة متعامدة على بعضها، راح البنّاؤون يبنون المنازل والمباني بطابوق أصفر اللون يزينه خشب “الجاوي”.
يبدو أن الأجداد كانوا متأهبين لغارات المناخ.
على الرغم من اندثار معظم منازلهم، إلا أن المنازل الصامدة منها البالغ عددها 70 منزلاً تشهد لأهل هذا الزمان بأن أسلافهم حافظوا على واجهاتها بالفطنة والطابوق.
ولذلك يفتخر مرتضى أحمد بأن المنزل الذي ورثه عن أبيه في حي الشرقية ظل نضيراً حتى بعد مرور عشرات السنوات على بنائه.
ويحرص مرتضى يومياً على مراقبة الشعاع الخافت للشمس المقتربة من المغيب وهو يمنح واجهة منزله منظراً “يشبه مناظر المدن الذهبية في الأفلام الخيالية” كما يقول.
لا تقف مواد الواجهات الطابوقية على قدم المساواة، فبعضها للأغنياء والآخر للفقراء.
يستخدم الأغنياء في بناء واجهات منازلهم نوعاً من الطابوق يسمى “جفقيم”، وهو مرتفع السعر إلى حد ما ولا تستطيع الطبقات الكادحة تحمل تكاليفه.
يلجأ الفقراء إلى استخدام الطابوق العادي في بناء الواجهات.
أطلعنا البنّاء عايد كاظم على بعض تفاصيل واجهات الجفقيم وأسعارها ومدة إنجازها.
يستغرق بناء واجهة المنزل 30 يوماً في المعدل، ويكلف المتر المربع الواحد 50 ألف دينار (نحو 32 دولاراً).
“هذا العمل يتقنه عدد قليل جداً من الأسطوات لأنه دقيق جداً” قال كاظم.
يبنى الجفقيم بقياسات تسمى “البندة”، وهي بهيأة حزوز وفراغات محددة بين طابوقة وأخرى لتظهر الواجهة ذات طراز معماري رفيع.
يتم استيراد الجفقيم من إيران والصين ودول أخرى ويباع في السوق العراقية بسعر 550 ألف دينار (344 دولاراً) لكل ألف طابوقة.
تكفي الألف طابوقة لإكمال 16 متراً مربعاً من الواجهة.
ينظر الفقراء إلى هذه المبالغ على أنها ترف يمكن الاستغناء عنه واستبداله باحتياجات منزلية أكثر أهمية.
لذا تُشاهد واجهات الجفقيم في أحياء تعدّ راقية في الناصرية مثل “المتنزه” و”الإدارة المحلية” و”الاقتصاديين”.
الجميع يفكر بالأتربة
بغض النظر عن الطابوق المستخدم في تشييد الواجهات، يشترك سكان ذي قار في الرغبة بتحجيم أضرار الأتربة.
ففي محافظة شهدت عواصف ترابية على مدار 147 يوماً من عام 2021 و150 يوماً من عام 2022، لا بد من اللجوء إلى وسائل التأقلم.
يعزو علي طارق، مدير دائرة الأنواء الجوية في ذي قار، سبب كثرة العواصف الترابية إلى انحسار الأمطار والتغيرات المناخية.
في الشتاء الماضي مثلاً، كانت كميات الأمطار التي هطلت على المحافظة لا تتجاوز 32 مليمتراً، وهي كميات ضئيلة.
“لم يحدث أن تدنت الأمطار إلى هذا المستوى منذ عام 1964″، قال طارق.
تحرس الأمطار أبواب مدن ذي قار من عواصف التراب، وعندما تغيب تفتك تلك العواصف القادمة من صحارى السعودية والأردن وسوريا ومنطقة الكطيعة على الحدود مع محافظة المثنى، بواجهات المباني وكل شيء.
طموحات أبسط
أولئك هم قاطنو الأحياء العشوائية.
إزاء الاهتمام بالواجهات ومدى تحملها الظروف المناخية، يقضي عدد كبير من السكان أيامهم وهم يحلمون بمساكن نظامية أياً كانت واجهاتها.
ينتشر هؤلاء ضمن 132 موقعاً تضم نحو 37 ألف منزل أغلبها مبني بمادة “البلوك” الإسمنتي ومسقوف بالحديد والخشب.
ومع أن دائرة بلدية الناصرية تضم شعبة لتنظيم المدن، إلا أنها ما زالت حائرة في التعامل مع الأحياء العشوائية التي تمثل مشكلة معقدة في عموم العراق.
وعلى أي حال، لا تتدخل البلدية في تحديد أشكال واجهات المنازل لعدم وجود قانون بهذا الشأن.
“القوانين النافذة تركز على تحديد مسافة البناء عن الشارع العام بحدود مترين ونصف متر أرضياً و30 سم ارتفاعاً عن مستوى تبليط الشارع” قال حيدر ياسين مدير شعبة تنظيم المدن.
لكن المشترين يركزون أيضاً على الجفقيم عندما يقبلون على شراء منزل، فهو مرغوب ويحرّك السعر نحو الأعلى.
أخبرنا حكمت والي، صاحب مكتب عقارات في الناصرية، أن واجهات الجفقيم مرغوبة أكثر من الواجهات الحجرية.
“ذلك أن الجفقيم يمكن تبديله مستقبلاً ويتلاءم أكثر مع الجو” قال والي.
بعدما أجرى حديثاً مع أحد أصحاب العقارات، علم الحاج راجي محسن أن اختياره الواجهة الطابوقية كان صائباً لسبب آخر يتعلق بأذواق الزبائن وتفضيلاتهم إذا فّكر ببيع منزله في المستقبل.