الثقافة العراقية في رحلة التحوّل من البدلة العسكرية إلى "الدشداشة"
26 كانون الأول 2022
نَزَعَ رجل الثقافة ثيابه العسكرية لبرهة، لكنه سرعان ما ارتدى العمامة الإسلامية أو عقال شيخ العشيرة، وانضم إلى السلطة الجديدة. سلطة أبعادها إسلامية مُحافظة، غارقة بالفساد، لا تؤمن بالنظام الذي تُديره. مثل هذه السلطة لا تهمّها الثقافة، ولا تحترم المثقفين..
لم يكن أمام الجندي العراقي الذي كان شاهداً على سقوط بغداد عام 2003 إلا نزع بدلته العسكرية وارتداء دشداشة بيضاء للوصول إلى ضفة الأمان، وكان لون البدلة يرمز إلى الرمادي، بينما ترمز الدشداشة إلى الأبيض.
ولم يكن الوصول إلى الضفّة الأخرى قد وفّر الأمان فحسب، وإنما مثّل أيضاً انتقالاً فكريّاً مع بقاء عدد غير قليل منها رجعيّة المحتوى. وهكذا صار لدينا انتقال من حكم العسكر إلى الحكم القبلي والديني، وقد أنتج مزيداً من العنف والدمار.
الرمادي والأبيض
“الثقافة رجل السياسة”، يقول آرون وايلدفسكي، المفكر الماركسي، وهو يشير إلى تأثير السياسة المباشر على الثقافة والعكس أيضاً. باستطراد أكثر، يقصد أن الثقافة مثل أي رجل يسهل احتواؤه وتوظيفه عندما تحتاجه السلطة.
وفي الحالة العراقيّة، فإن الجندي كان هو رجل السياسة. فالثقافة العراقيّة كانت ترتدي البزّة العسكرية فعلاً لا توصيفاً. فقد شوهد خلال الثمانينيات والتسعينيات شعراء وكتّاب وصحفيون وهم يرتدون بدلات خاكيّة ويتجولون في أروقة المؤسسات والنوادي الثقافية. بعضهم كان التباهي بادياً عليه، وقد أنتج الكثير منهم كتابات أدبيّة لصالح سلاسل كتب بروباغنداية مولتها حكومة البعث لتصبير أهالي الجنود على مقتل أولادهم، ولدفع الشباب، بطبيعة الحال، إلى الالتزام بتنفيذ تعليمات القيادة بالالتحاق بالخدمة العسكريّة. ومن السلاسل كانت الأشهر، “أدب قادسية صدام”. وهذا بالإضافة إلى أمسيات ثقافية، يهتف فيها شعراء عموديون للحرب ويمجّدون القائد الضرورة على انتصاراته الفذّة. استقطبت هذه الأجواء الشعراء العاميون، وصاروا جزءاً من المشهد، بل هيمنوا عليه بعد ذلك.
وفي مثل هذه الأجواء، التي يهيمن عليها رجال يتطاير الرذاذ من أفواههم وهم يقولون كلاماً كلّه هذيان، تنسحب النساء ويعتزلن التشارك في بيئات منعدمة المنطق.
الحرب بالنسبة للرجال إخراج الفحولة إلى أقصى مديّاتها، بينما تعني للنساء انطلاق الوحشيّة الكامنة في البشر.
عليه، نَزَعَ رجل الثقافة ثيابه العسكرية لبرهة، لكنه سرعان ما ارتدى العمامة الإسلامية أو عقال شيخ العشيرة، وانضم إلى السلطة الجديدة. سلطة أبعادها إسلامية مُحافظة، غارقة بالفساد، لا تؤمن بالنظام الذي تُديره. مثل هذه السلطة لا تهمّها الثقافة، ولا تحترم المثقفين. من وجهة نظرها، فإن المثقف سكّير قرقوز، يُسعِد السياسي ويسلّيه ويمد برصيد عنجهيّته.
وهذه السلطة الجديدة أبقت على بعض أنساق المثقف القادم من بوابة البعث، ولذلك، سمّت سعدون الدليمي وزيراً للدفاع وللثقافة في آن واحد في حكومة نوري المالكي الثانية 2010-2014. وكان الدليمي يترفّع على وزارة الثقافة ويجتمع بموظفيها والمعنيين بشؤونها في مقر وزارة الدفاع.
بدا واضحاً ارتباط الثقافة بالعسكر، وأصبح نسقاً مهيمناً في فكر السلطات المتعاقبة، وذلك حتى بعد زوال حكم الجنرال والانتقال إلى “حكم الديموقراطية”.
الثقافة عند الإسلاميين
الثقافة، وفق كارل ماركس، تُمثِّل بُنية فوقية، وهي على علاقة جدلية مع البنية التحتية التي تمثل القوى وعلاقات الإنتاج، بمعنى الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وهاتين الأخيرتين هما صلب حياة الناس.
وما يحدث للبنية التحتية يؤثر على البنية الفوقية، والعكس صحيح أيضاً. وفي هذه المُعادلة، فإن البنية الفوقية، وهي الثقافة، خاضعة لفكر الإسلام السياسي الذي يُهيمن على الدولة، وبمعيتها يسيطر على البُنية الثقافية وخطابها. والإسلام السياسي لا يؤمن بالمنظومة الحديثة لبناء المؤسسات والدولة، وإنما يطوّعها من أجل أهدافه العابرة للحدود الوطنية، والساعية إلى اليوتوبيا الإسلامية المتخيّلة.
لكن الإسلام السياسي، في رحلته إلى اليوتيوبيا، يُقصي من يقف في طريقه، وهكذا نشهد صراع الطوائف والهويّات. كل مجموعة تريد إقصاء الأخرى، لأنها تجد فيها معطّلاً في تحقيق أفكارها ذات الأبعاد القُدسيّة.
يجد هذا الصراع طريقه إلى المؤسسات الثقافيّة والفكريّة، إن كان بشكل ظاهر أو مضمر.
على سبيل المثال، رفض أكاديمي معروف في جامعة الموصل اقتراح بحث لدراسة شعر حسب الشيخ جعفر فقط لأنه شيعي، بالمقابل صرخ شاعر شيعي مشهور من على أحد منابر المهرجانات بشتم عائشة، زوجة الرسول، وعمر بن الخطاب، الخليفة الثاني للمسلمين. منع الشاعر ذاته شاعرا سنيا من الدخول بغداد لأنه كتب قصيدة في ابن الخطاب.
في أيار 2017، كتب شاعر من البصرة مقالاً عنوانه “تعالوا إلى البصرة… ولكن”. نضح المقال بالاستعلاء والعنصرية، وألقى اللوم في خراب البصرة على الوافدين من مدينتي العمارة والناصرية.
مثل هؤلاء ظهروا بكثرة في الأوساط الثقافية، وصاروا يتسلّقون المناصب الرفيعة.
المنتج الثقافي الجديد!
في بلد ريعي، ذي اقتصاد مركزي، وذي رقابة على المؤسسات البديلة، تهيمن الدولة على الثقافة من خلال الوزارة والمؤسسات المُتفرّعة منها. فهي في الغالب الداعم والمُنتِج للفعاليات الثقافية.
وفي البداية، كانت وزارة الثقافة تدخل بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية ومفاوضات تشكيل الحكومة ضمن صفقة تبادلية بين أطراف السلطة الحاكمة. فإذا حصل السنة على وزارة الشباب والرياضة، تكون الثقافة من حصة الشيعة، وبالعكس. واستمر الوضع هكذا إلى أن دخل عصائب أهل الحق، الفصيل المسلح، إلى العمل السياسي عام 2018.
بنى هذا الفصيل أعشاشاً داخل الوزارة واستحوذ على مصدر القرار فيها، حتى أن اتحاد الادباء والكتاب في العراق اجتمع مع زعيمها قيس الخزعلي في مقره للتشاور معه بشأن تنصيب وزير الثقافة أثناء مفاوضات تشكيل حكومة محمد شياع السوداني.
واقع الحال، وفي ظلّ أوضاع وأفكار كهذه، هيمن على حقل الثقافة في العراق فصيل عسكري شيعي راديكالي، وجلب أفكاره معه، وصار يطبقّها، بمعيّة المتلوّنين الجُدد، على الثقافة بشتّى فروعها. وأخذت الطائفيّة، بأشدّ أشكالها وضاعة، تستعمل بكثرة.
مثال ذلك ما حصل مع الشاعرين فاضل العزاوي وكاظم الحجاج، وقضيتاهما ليستا مرتبطتين ببضعهما، لكنهما تتشابهان مضموناً.
منذ خروجه معارضاً، صودر بيت فاضل العزاوي، وسكنه شاعر عنوة، وبعدها سكن من شخص لا يُعرف بالضبط ما إذا كان مُقرّباً من السلطة، أم أنها تحميه لغرض طائفي.
منذ أكثر من عقد ونصف يحاول العزاوي استعادة بيته. ناشد أكثر من مرّة، ووعِد أكثر من مرّة كذلك، لكن الصدى فقط عاد إليه، ولم يستعد شبراً من دارته.
فاضل، الشاعر الستيني من كركوك، ولقبه العزّاوي، وهذا يرمز إلى أنه سنّي، كما أنه شيوعي وعلماني، عارض نظام صدّام كما عارض النظام الجديد. لم يستجب لأي دعوة رسميّة للقدوم إلى العراق.
من بعض أترابه المثقفين، فهو يعد من مثقفي الخارج، ولم يعد ينتمي إلى هذه البلاد.
على العكس منه، كاظم الحجاج، شاعر سبعيني من البصرة. أسكن في دار حكوميّة لأنه موظف، وطالبته بها الحكومة بعد أن أحيل إلى التقاعد. لكن الرجل الذي تجاوز الستين لا دار له غير دار الحكومة، وتقاعده لا يكفيه لاستئجار منزل لائقة.
كتب الحجّاج عن قصّته، وسارع المثقفون إلى مناصرته، وتراجعت الحكومة عن قرارها وبقي الشاعر البصري مقيماً في دارته.
الحجاج مَدح صدّام مرّة، وهو من البصرة، ومن بيت معروف أنه شيعي.
الرجلان معروفان، أحدهما استحق التقدير لمواقفه المناهضة للبعث، والآخر استحق المُسامحة.
لكن نسبهما، وبعض الفوارق التي صنعتها السياسة بينهما، أبقت على الأول مظلوماً والثاني مُقدّراً.
وهذه هي الطريقة التي تسير وستسير عليها الوزارة.
حالة سعدي يوسف، الذي فارق الحياة وهو غاضب كما لم يغضب في حياته من السياسيين، حالة شاعر ما بعد الحداثة في البلدان الناطقة بالعربيّة أشدّ سطوعاً في ارتهان الثقافة الرسمي للعسكر.
فقد طلب حسن ناظم، وزير الثقافة السابق، من وزارة الخارجية وسفير العراق في لندن رعاية الشاعر سعدي يوسف في أيامه الأخيرة أثناء رقوده في مستشفى.
انقلب إعلام القوى الشيعية على وزير الثقافة، والأخير لم يتردد ولو لحظة في سحب طلبه، وإصدار بيان مليء بالخنوع لرجال السياسة المتطرفين والذين تورط الكثير منهم بصفقات فساد مثبتة.
قال ناظم في بيانه التوضيحي. إن سعدي يوسف ” مات شاعراً منذ سنوات”، فيما وصف ما كتبه الأخضر بن يوسف بعد “موته شعرياً” بأنها نصوص هي “أوعية لأحقاد وسموم ترتدّ عليه”. وبدا متأسفاً على “إساءات” سعدي إلى جلال طالباني، وعبد الوهاب الساعدي، والسيد علي السيستاني. سياسي، وعسكري، ورجل دين – مرجع لطائفة كبيرة من المسلمين.
من حقّ الجميع، بالتأكيد، الإشكال مع سعدي يوسف ونقد مواقفه التي لم يفلح بجميعها إحسان التعبير، لكن هل يجوّز ترك مريض نذر أكثر من نصف حياته يعارض صدام الحسين، تركه وحيدا أعزل، يرتدي قلادة تحمل خارطة العراق، ليموت دون حتّى أن يُسأل عنه؟!
مشتركات في العقيدة
محاولة فرض نمط طائفي على التعاملات لا يتوقّف على المثقفين الأفراد وإنما ينسحب كذلك على الأفكار. في معرض بغداد الدولي للكتاب عام 2021، جاء جهاز الأمن الوطني إلى دار نشر كبيرة ومهمة وأبلغ مديرها برفع كتاب “الرسالة المحمدية” لمعروف الرصافي من المعرض.
تُعرِّف فئة واسعة من القوى الشيعية معروف الرصافي بأن أفكاره مضادة للفكر الشيعي. لكن الرصافي ليس وحيداً في قائمة المنع، فقد انضم خصمه الزهاوي إليه ومنعت كتبه، كما منعت أي كتب مترجمة تخص صدام حسين، وكذلك كتاب “الطائفة والنخبة الطائفية – ولاء الجماعات في صراع الأمم” لمحمد مظلوم، الذي تحدّث فيه عن المقاتل التي ارتكبتها الطوائف، ومنها الطائفة الشيعية.
آنذاك، حاول مدير الدار التواصل مع وزير الثقافة حسن ناظم الذي نصبه فصيل عصائب أهل الحق للتدخل، لكن دون جدوى. فاضطر صاحب الدار إلى التواصل مع الكاظمي، فتدخل الأخير وألغى قرار جهاز الأمن الوطني.
لماذا لم يتدخل الوزير؟ هناك قضايا أخرى كثيرة لم يتدخّل بها، لأنها تضرّ بصورته أمام من أستوزره.
جنرال ذاهب.. رجل دين قادم
المهم هو أن الجنرال الذي ألبس الثقافة البدلة العسكرية رحل، وجاء مكانه رجل الدين. الرجلان، أو الفكران في هذه الحالة، كانا في قطيعة، ويقاتل أحدهما الآخر. لكنهما، رغم ذلك، تشابها في أحيانٍ كثيرة حد التطابق. فالاثنان انخرطا بقوة في تقييد الحريات وإقصاء المخالفين.
وإذا ما كان البعث قد أكل، أوّل ما أكل، مفكّريه ومناصريه وشعراءه، فإن الإسلام السياسي أكل المناضلين الذين علا صوتهم ضد نظام البعث وحكمه. هكذا طُرد سعدي يوسف وفاضل العزاوي وآخرون من المشهد الثقافي الرسمي، وصار الحديث عن هؤلاء، وخاصّة سعدي يوسف، لا يأتي إلا شتماً.
خطاب وزارة الثقافة، طبعاً، لا ينطبق على مؤسساتها فقط، وإنما ينطبق على مؤسسات مستقلّة، إدارتها منتخبة، مثل الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.
ألغى الاتحاد جلسة استذكار لسعدي يوسف، لأنه ووجه بهجمة من الإعلام الحزبي، بينما بقي يقيم جلسات لشخصيّات أغرقت بمديح البعث وصدّام من دون مواربة، أما الإعلام الحزبي فلم يعترض على هؤلاء يوماً.
هؤلاء المدّاحون جرى استقبالهم بحفاوة، وتسلقّوا وتداولوا مناصب إدارية عليا. فهم لا غيرهم من يستطيع خدمتهم وتلميع صورتهم طالما بقي الفتات يرمى إليهم. سيبقون صامتين ولن يزعجوا الطائفة /السلطة.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
لم يكن أمام الجندي العراقي الذي كان شاهداً على سقوط بغداد عام 2003 إلا نزع بدلته العسكرية وارتداء دشداشة بيضاء للوصول إلى ضفة الأمان، وكان لون البدلة يرمز إلى الرمادي، بينما ترمز الدشداشة إلى الأبيض.
ولم يكن الوصول إلى الضفّة الأخرى قد وفّر الأمان فحسب، وإنما مثّل أيضاً انتقالاً فكريّاً مع بقاء عدد غير قليل منها رجعيّة المحتوى. وهكذا صار لدينا انتقال من حكم العسكر إلى الحكم القبلي والديني، وقد أنتج مزيداً من العنف والدمار.
الرمادي والأبيض
“الثقافة رجل السياسة”، يقول آرون وايلدفسكي، المفكر الماركسي، وهو يشير إلى تأثير السياسة المباشر على الثقافة والعكس أيضاً. باستطراد أكثر، يقصد أن الثقافة مثل أي رجل يسهل احتواؤه وتوظيفه عندما تحتاجه السلطة.
وفي الحالة العراقيّة، فإن الجندي كان هو رجل السياسة. فالثقافة العراقيّة كانت ترتدي البزّة العسكرية فعلاً لا توصيفاً. فقد شوهد خلال الثمانينيات والتسعينيات شعراء وكتّاب وصحفيون وهم يرتدون بدلات خاكيّة ويتجولون في أروقة المؤسسات والنوادي الثقافية. بعضهم كان التباهي بادياً عليه، وقد أنتج الكثير منهم كتابات أدبيّة لصالح سلاسل كتب بروباغنداية مولتها حكومة البعث لتصبير أهالي الجنود على مقتل أولادهم، ولدفع الشباب، بطبيعة الحال، إلى الالتزام بتنفيذ تعليمات القيادة بالالتحاق بالخدمة العسكريّة. ومن السلاسل كانت الأشهر، “أدب قادسية صدام”. وهذا بالإضافة إلى أمسيات ثقافية، يهتف فيها شعراء عموديون للحرب ويمجّدون القائد الضرورة على انتصاراته الفذّة. استقطبت هذه الأجواء الشعراء العاميون، وصاروا جزءاً من المشهد، بل هيمنوا عليه بعد ذلك.
وفي مثل هذه الأجواء، التي يهيمن عليها رجال يتطاير الرذاذ من أفواههم وهم يقولون كلاماً كلّه هذيان، تنسحب النساء ويعتزلن التشارك في بيئات منعدمة المنطق.
الحرب بالنسبة للرجال إخراج الفحولة إلى أقصى مديّاتها، بينما تعني للنساء انطلاق الوحشيّة الكامنة في البشر.
عليه، نَزَعَ رجل الثقافة ثيابه العسكرية لبرهة، لكنه سرعان ما ارتدى العمامة الإسلامية أو عقال شيخ العشيرة، وانضم إلى السلطة الجديدة. سلطة أبعادها إسلامية مُحافظة، غارقة بالفساد، لا تؤمن بالنظام الذي تُديره. مثل هذه السلطة لا تهمّها الثقافة، ولا تحترم المثقفين. من وجهة نظرها، فإن المثقف سكّير قرقوز، يُسعِد السياسي ويسلّيه ويمد برصيد عنجهيّته.
وهذه السلطة الجديدة أبقت على بعض أنساق المثقف القادم من بوابة البعث، ولذلك، سمّت سعدون الدليمي وزيراً للدفاع وللثقافة في آن واحد في حكومة نوري المالكي الثانية 2010-2014. وكان الدليمي يترفّع على وزارة الثقافة ويجتمع بموظفيها والمعنيين بشؤونها في مقر وزارة الدفاع.
بدا واضحاً ارتباط الثقافة بالعسكر، وأصبح نسقاً مهيمناً في فكر السلطات المتعاقبة، وذلك حتى بعد زوال حكم الجنرال والانتقال إلى “حكم الديموقراطية”.
الثقافة عند الإسلاميين
الثقافة، وفق كارل ماركس، تُمثِّل بُنية فوقية، وهي على علاقة جدلية مع البنية التحتية التي تمثل القوى وعلاقات الإنتاج، بمعنى الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وهاتين الأخيرتين هما صلب حياة الناس.
وما يحدث للبنية التحتية يؤثر على البنية الفوقية، والعكس صحيح أيضاً. وفي هذه المُعادلة، فإن البنية الفوقية، وهي الثقافة، خاضعة لفكر الإسلام السياسي الذي يُهيمن على الدولة، وبمعيتها يسيطر على البُنية الثقافية وخطابها. والإسلام السياسي لا يؤمن بالمنظومة الحديثة لبناء المؤسسات والدولة، وإنما يطوّعها من أجل أهدافه العابرة للحدود الوطنية، والساعية إلى اليوتوبيا الإسلامية المتخيّلة.
لكن الإسلام السياسي، في رحلته إلى اليوتيوبيا، يُقصي من يقف في طريقه، وهكذا نشهد صراع الطوائف والهويّات. كل مجموعة تريد إقصاء الأخرى، لأنها تجد فيها معطّلاً في تحقيق أفكارها ذات الأبعاد القُدسيّة.
يجد هذا الصراع طريقه إلى المؤسسات الثقافيّة والفكريّة، إن كان بشكل ظاهر أو مضمر.
على سبيل المثال، رفض أكاديمي معروف في جامعة الموصل اقتراح بحث لدراسة شعر حسب الشيخ جعفر فقط لأنه شيعي، بالمقابل صرخ شاعر شيعي مشهور من على أحد منابر المهرجانات بشتم عائشة، زوجة الرسول، وعمر بن الخطاب، الخليفة الثاني للمسلمين. منع الشاعر ذاته شاعرا سنيا من الدخول بغداد لأنه كتب قصيدة في ابن الخطاب.
في أيار 2017، كتب شاعر من البصرة مقالاً عنوانه “تعالوا إلى البصرة… ولكن”. نضح المقال بالاستعلاء والعنصرية، وألقى اللوم في خراب البصرة على الوافدين من مدينتي العمارة والناصرية.
مثل هؤلاء ظهروا بكثرة في الأوساط الثقافية، وصاروا يتسلّقون المناصب الرفيعة.
المنتج الثقافي الجديد!
في بلد ريعي، ذي اقتصاد مركزي، وذي رقابة على المؤسسات البديلة، تهيمن الدولة على الثقافة من خلال الوزارة والمؤسسات المُتفرّعة منها. فهي في الغالب الداعم والمُنتِج للفعاليات الثقافية.
وفي البداية، كانت وزارة الثقافة تدخل بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية ومفاوضات تشكيل الحكومة ضمن صفقة تبادلية بين أطراف السلطة الحاكمة. فإذا حصل السنة على وزارة الشباب والرياضة، تكون الثقافة من حصة الشيعة، وبالعكس. واستمر الوضع هكذا إلى أن دخل عصائب أهل الحق، الفصيل المسلح، إلى العمل السياسي عام 2018.
بنى هذا الفصيل أعشاشاً داخل الوزارة واستحوذ على مصدر القرار فيها، حتى أن اتحاد الادباء والكتاب في العراق اجتمع مع زعيمها قيس الخزعلي في مقره للتشاور معه بشأن تنصيب وزير الثقافة أثناء مفاوضات تشكيل حكومة محمد شياع السوداني.
واقع الحال، وفي ظلّ أوضاع وأفكار كهذه، هيمن على حقل الثقافة في العراق فصيل عسكري شيعي راديكالي، وجلب أفكاره معه، وصار يطبقّها، بمعيّة المتلوّنين الجُدد، على الثقافة بشتّى فروعها. وأخذت الطائفيّة، بأشدّ أشكالها وضاعة، تستعمل بكثرة.
مثال ذلك ما حصل مع الشاعرين فاضل العزاوي وكاظم الحجاج، وقضيتاهما ليستا مرتبطتين ببضعهما، لكنهما تتشابهان مضموناً.
منذ خروجه معارضاً، صودر بيت فاضل العزاوي، وسكنه شاعر عنوة، وبعدها سكن من شخص لا يُعرف بالضبط ما إذا كان مُقرّباً من السلطة، أم أنها تحميه لغرض طائفي.
منذ أكثر من عقد ونصف يحاول العزاوي استعادة بيته. ناشد أكثر من مرّة، ووعِد أكثر من مرّة كذلك، لكن الصدى فقط عاد إليه، ولم يستعد شبراً من دارته.
فاضل، الشاعر الستيني من كركوك، ولقبه العزّاوي، وهذا يرمز إلى أنه سنّي، كما أنه شيوعي وعلماني، عارض نظام صدّام كما عارض النظام الجديد. لم يستجب لأي دعوة رسميّة للقدوم إلى العراق.
من بعض أترابه المثقفين، فهو يعد من مثقفي الخارج، ولم يعد ينتمي إلى هذه البلاد.
على العكس منه، كاظم الحجاج، شاعر سبعيني من البصرة. أسكن في دار حكوميّة لأنه موظف، وطالبته بها الحكومة بعد أن أحيل إلى التقاعد. لكن الرجل الذي تجاوز الستين لا دار له غير دار الحكومة، وتقاعده لا يكفيه لاستئجار منزل لائقة.
كتب الحجّاج عن قصّته، وسارع المثقفون إلى مناصرته، وتراجعت الحكومة عن قرارها وبقي الشاعر البصري مقيماً في دارته.
الحجاج مَدح صدّام مرّة، وهو من البصرة، ومن بيت معروف أنه شيعي.
الرجلان معروفان، أحدهما استحق التقدير لمواقفه المناهضة للبعث، والآخر استحق المُسامحة.
لكن نسبهما، وبعض الفوارق التي صنعتها السياسة بينهما، أبقت على الأول مظلوماً والثاني مُقدّراً.
وهذه هي الطريقة التي تسير وستسير عليها الوزارة.
حالة سعدي يوسف، الذي فارق الحياة وهو غاضب كما لم يغضب في حياته من السياسيين، حالة شاعر ما بعد الحداثة في البلدان الناطقة بالعربيّة أشدّ سطوعاً في ارتهان الثقافة الرسمي للعسكر.
فقد طلب حسن ناظم، وزير الثقافة السابق، من وزارة الخارجية وسفير العراق في لندن رعاية الشاعر سعدي يوسف في أيامه الأخيرة أثناء رقوده في مستشفى.
انقلب إعلام القوى الشيعية على وزير الثقافة، والأخير لم يتردد ولو لحظة في سحب طلبه، وإصدار بيان مليء بالخنوع لرجال السياسة المتطرفين والذين تورط الكثير منهم بصفقات فساد مثبتة.
قال ناظم في بيانه التوضيحي. إن سعدي يوسف ” مات شاعراً منذ سنوات”، فيما وصف ما كتبه الأخضر بن يوسف بعد “موته شعرياً” بأنها نصوص هي “أوعية لأحقاد وسموم ترتدّ عليه”. وبدا متأسفاً على “إساءات” سعدي إلى جلال طالباني، وعبد الوهاب الساعدي، والسيد علي السيستاني. سياسي، وعسكري، ورجل دين – مرجع لطائفة كبيرة من المسلمين.
من حقّ الجميع، بالتأكيد، الإشكال مع سعدي يوسف ونقد مواقفه التي لم يفلح بجميعها إحسان التعبير، لكن هل يجوّز ترك مريض نذر أكثر من نصف حياته يعارض صدام الحسين، تركه وحيدا أعزل، يرتدي قلادة تحمل خارطة العراق، ليموت دون حتّى أن يُسأل عنه؟!
مشتركات في العقيدة
محاولة فرض نمط طائفي على التعاملات لا يتوقّف على المثقفين الأفراد وإنما ينسحب كذلك على الأفكار. في معرض بغداد الدولي للكتاب عام 2021، جاء جهاز الأمن الوطني إلى دار نشر كبيرة ومهمة وأبلغ مديرها برفع كتاب “الرسالة المحمدية” لمعروف الرصافي من المعرض.
تُعرِّف فئة واسعة من القوى الشيعية معروف الرصافي بأن أفكاره مضادة للفكر الشيعي. لكن الرصافي ليس وحيداً في قائمة المنع، فقد انضم خصمه الزهاوي إليه ومنعت كتبه، كما منعت أي كتب مترجمة تخص صدام حسين، وكذلك كتاب “الطائفة والنخبة الطائفية – ولاء الجماعات في صراع الأمم” لمحمد مظلوم، الذي تحدّث فيه عن المقاتل التي ارتكبتها الطوائف، ومنها الطائفة الشيعية.
آنذاك، حاول مدير الدار التواصل مع وزير الثقافة حسن ناظم الذي نصبه فصيل عصائب أهل الحق للتدخل، لكن دون جدوى. فاضطر صاحب الدار إلى التواصل مع الكاظمي، فتدخل الأخير وألغى قرار جهاز الأمن الوطني.
لماذا لم يتدخل الوزير؟ هناك قضايا أخرى كثيرة لم يتدخّل بها، لأنها تضرّ بصورته أمام من أستوزره.
جنرال ذاهب.. رجل دين قادم
المهم هو أن الجنرال الذي ألبس الثقافة البدلة العسكرية رحل، وجاء مكانه رجل الدين. الرجلان، أو الفكران في هذه الحالة، كانا في قطيعة، ويقاتل أحدهما الآخر. لكنهما، رغم ذلك، تشابها في أحيانٍ كثيرة حد التطابق. فالاثنان انخرطا بقوة في تقييد الحريات وإقصاء المخالفين.
وإذا ما كان البعث قد أكل، أوّل ما أكل، مفكّريه ومناصريه وشعراءه، فإن الإسلام السياسي أكل المناضلين الذين علا صوتهم ضد نظام البعث وحكمه. هكذا طُرد سعدي يوسف وفاضل العزاوي وآخرون من المشهد الثقافي الرسمي، وصار الحديث عن هؤلاء، وخاصّة سعدي يوسف، لا يأتي إلا شتماً.
خطاب وزارة الثقافة، طبعاً، لا ينطبق على مؤسساتها فقط، وإنما ينطبق على مؤسسات مستقلّة، إدارتها منتخبة، مثل الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.
ألغى الاتحاد جلسة استذكار لسعدي يوسف، لأنه ووجه بهجمة من الإعلام الحزبي، بينما بقي يقيم جلسات لشخصيّات أغرقت بمديح البعث وصدّام من دون مواربة، أما الإعلام الحزبي فلم يعترض على هؤلاء يوماً.
هؤلاء المدّاحون جرى استقبالهم بحفاوة، وتسلقّوا وتداولوا مناصب إدارية عليا. فهم لا غيرهم من يستطيع خدمتهم وتلميع صورتهم طالما بقي الفتات يرمى إليهم. سيبقون صامتين ولن يزعجوا الطائفة /السلطة.