بين البدو في الصحراء: خوف من هجمات اللصوص والاستثمارات
18 كانون الأول 2022
باتت المراعي المقدرة مساحتها بنحو ثمانية ملايين دونم في المثنى مهددة من مشاريع الاستثمار في البادية، أما سلاح البدوي فهو عرضة للمصادرة. حياة البدو التي حافظوا عليها لمئات السنين صارت مهددة، والخوف من المستقبل في أشده.. رحلة طويلة مع البدو في صحراء المثنى تكشف آثار الماضي ومخاوف القادم من الأيام..
شعر أبو سالم البدوي بالسعادة عندما رأى بين مُعداتنا ما يمكن أن يساعده في تخطي محنته، فقد كاد اليأس أن يستحوذ عليه كلياً.
كنا على موعد مع أبي سالم ليرافقنا في جولة استكشافية في بادية المثنى، وعندما وصلنا إلى مكان اللقاء وجدنا القلق والتوتر يهيمنان عليه.
لقد تاهت إبله في الصحراء.
قضى الرجل أسبوعين وهو يبحث عن القطيع الضال المكون من أكثر من 200 رأس، ولكن في صحراء تمتد على مساحة 18 مليون دونم، لا يسهل العثور على ما يُفقد.
طلب الاستعانة بطائرة مسيرة “درون” مخصصة للتصوير كانت بحوزتنا للبحث عن الإبل، فأطلقناها على ارتفاع مئات الأمتار وحركناها في مختلف الاتجاهات، ولكن من دون جدوى.
اختار أبو سالم بعد ذلك العودة إلى طريقته التقليدية في التعامل مع هكذا مواقف.
وجود سيارتنا سيسهل عليه المهمة.
ابتعدنا كثيرا عن نقطة الالتقاء، وفجأة طلب أبو سالم إيقاف السيارة.
ترجل ومشى قليلا ثم أشار بسبابته إلى الأرض “هذه آثار أقدامها وهذا روثها. إبلي مرت من هنا”.
بدأت علامات الغبطة والارتياح تظهر عليه، فقد اقترب من إيجاد قطيعه. على بعد بضعة كيلومترات شاهدنا ثلاث نوق واقفة فاتجهنا نحوها.
“هذه النوق لي” قال أبو سالم بعد أن رأى العلامة H على أجسادها.
تقدر إحصاءات المستشفى البيطري في المثنى عدد الإبل في البادية بـ16 ألف رأس يرعاها البدو الرحّل، ولكي لا تختلط الحيوانات ببعضها، يضع كل واحد منهم علامة على أجسادها باستعمال حديدة محمرّة بالنار.
يحضر شهود عملية طبع العلامات على الإبل بالكيّ حتى لا يدعي أحد أنه صاحب علامة تعود لغيره.
بات على أبي سالم العثور على بقية القطيع، وهو متخوف من عبوره الحدود إلى السعودية، فمهمة العثور على الإبل ستكون صعبة جداً في هذه الحالة بسبب الإجراءات الإدارية لشرطة الحدود.
بعد مسير بسيارتنا ذات الدفع الرباعي مدة ثلاث ساعات، عثرنا على القطيع، فاستحق ذلك من أبي سالم لحنا من الفرح والعتاب.
“لو أننا لم نعثر عليها هنا لاضطررنا إلى التوجه نحو موقع بيتنا السابق لأنها ستكون موجودة هناك على الأرجح” قال الرجل البدوي.
استثمارات خانقة
تهيم الإبل في الصحراء عادة بحثا عن الماء والغذاء، والمراعي وفيرة قرب الحدود العراقية-السعودية، إذ يقول البدو الرحل إنها تكفيهم موسم الشتاء كاملا بعد أن منعت السلطات العراقية إبل الدول الأخرى من عبور الحدود ودخول مراعيهم خلال السنوات الأخيرة.
لكنها تنحسر في الصيف بسبب الجفاف.
ويستغل الطفل مراد (11 عاما) وفرة المراعي في الشتاء لرعي إبل أبيه، فيخرج بها منذ الصباح الباكر حتى العصر.
لم يدخل مراد مدرسة في حياته ولم ير المدينة قط، لكنه يجيد الحساب ويحسب إبله كاملة دوماً، كما أنه يجيد القراءة بالمستوى الكافي لتسيير أموره اليومية، وقد تعلم ذلك من أبيه.
وعلى الرغم من صغر سنه، يعرف مراد الصحراء حق المعرفة، شأنه شأن بقية البدو الرحل، الذين يجوبونها بقطعانهم من الصباح حتى المساء قبل أن يعودوا إلى بيوتهم بصحبة القطعان أو من دونها، فالإبل تستطيع العودة من دون رعاتها عبر السير وراء جمل تم تعليق جرس على عنقه بعد انتهائها من الأكل في المراعي.
باتت المراعي المقدرة مساحتها بنحو ثمانية ملايين دونم مهددة من مشاريع الاستثمار في البادية.
تزحف تلك المشاريع على مراعي البدو وتضيّق الخناق عليهم.
بعض ساكني الصحراء تحدثوا عن عمليات خطف طالت عددا من الرجال البدويين، حيث تم احتجازهم لأيام وتعذيبهم بهدف تخويفهم وحملهم على مغادرة مناطقهم لتبقى خالية أمام المستثمرين.
لكن البدو غير مستعدين على ما يبدو لمغادرة الصحراء بسهولة في ظل تعلقهم بحكاياتها الممتدة إلى أزمان بعيدة مثل حكاية “طريق زبيدة”.
روى لنا بعضهم تفاصيل هذه الحكاية المتوارثة عن الأجداد.
تقول الحكاية إن قوافل الحج كانت تمر ببادية المثنى على “طريق الحاج” قادمة من تركيا ودول أخرى مرورا بالموصل والأنبار والنجف والمثنى ثم وصولا إلى السعودية حيث مدينة مكة، في رحلتين عرفتا برحلة الشتاء والصيف.
“طريق الحاج أسسته الحاجة زبيدة زوجة هارون الرشيد، وهو مليء ببرك ماء لاستراحة القوافل البدوية” قال أبو سالم.
ولم يبق من تلك البرك إلا آثار قليلة شاخصة من دون حمايتها أو ضمها كتراث عراقي.
“هذه آبار جن سليمان”، صاح أبو سالم وهو يشير إلى أربع آبار يصل عمق الواحدة منها إلى أكثر من 150 مترا.
تذكر أساطير البدو أن موكب النبي سليمان مر ذات مرة في هذه المنطقة المسماة الشبمرم، وكانوا بحاجة للماء فحفروها ليشربوا منها.
وما تزال هذه الآبار موجودة حتى اليوم، ويأتي البدو ليتزودوا من مائها لهم ولحيواناتهم.
الشعر للشتاء والقطن للصيف
بعد أن أوشك النهار على الانقضاء، توجهنا إلى بيت أبي سالم، وهو -كسائر بيوت البدو في الشتاء- مصنوع من شعر الماعز.
لا يبني البدو بيوتهم من الطين أو الطابوق لأنهم دائمو التنقل.
يُصنع البيت البدوي من شعر الماعز بعد حياكته بمكائن خاصة وبأحجام مختلفة حسب طلب صاحبه، ثم يثبت بالحبال والأوتاد في الأرض ويستند إلى عمود من الخشب يقسمه إلى نصفين: الربعة والمِحرم.
تُخصص الربعة للرجال وضيوفهم، والمحرم للنساء والطبخ، وتكون الربعة أكبر من المحرم، على اعتبار أن للرجل البدوي الأولوية والسلطة العائلية المطلقة.
“بيت الشعر يُطلب حسب مواسمه، وعادة ما يكون لونه الأسود الذي يصنع من شعر الماعز، وهو دافئ في الشتاء، أما في الصيف فيصنعون بيوتهم من القطن لأنه يعكس أشعة الشمس” قال هايف إحسان، تاجر بيوت بدوية.
ثمة عادات وأعراف تحكم الصحراء وبيوتها.
يحدثنا رائد مجباس، أحد سكان البادية وشيوخها، عن بعض تلك العادات والأعراف.
“عند مجيء الضيف إلينا لا يُسأل عن حاجته قبل ثلاثة أيام، وتُقدم له القهوة والطعام، ولا يشاركه أهل الدار الأكل إلا واحد منهم يقوم بتقطيع الطعام له ويقف آخر بقربه يمسك وعاء ماء الشرب له”. قال مجباس.
هناك عادات وتقاليد تتعلق بتقديم وشرب القهوة العربية يرويها لنا مجباس.
وللقهوة العربية ميزة ومكانة خاصة لدى البدو، وهي أثمن هدية يمكن أن يحصل عليها البدوي.
“إذا امتنع البدوي عن شرب القهوة ووضع الفنجان أمامه فذلك يعني أن له حاجة عند صاحب الدار يطلب قضاءها له، فإن قضيت شرب قهوته كإشارة للرضى” قال مجباس.
لا يجوز أخذ القهوة باليد اليسرى، وإذا اكتفى الشارب من الفنجان الأول عليه أن يهزه عندما يسلمه للساقي، فالأخير لن يتوقف عن سكب القهوة في الفنجان قبل أن يهزه الشارب.
يشرب معدّ القهوة منها قبل الضيوف تأكيدا على سلامتها من السموم والشر، ويتم التوزيع في المرة الأولى بين الضيوف المميزين، وفي المرة الثانية يبدأ التقديم من جهة اليمين حتى النهاية من دون تمييز، وفقا لقاعدة شهيرة تقول “أول القهوة خص وثانيها قص”.
السلاح من وسائل العيش
لا يخفي أبو ناصر، أحد سكان البادية، قلقه بعد أن تداول أهل البادية أنباء عن نية الحكومة سحب السلاح وحصره بيدها، وهي خطوة إذا تمت ستعرضه وأسرته وممتلكاته للخطر.
“في الصحراء تعيش حيوانات مفترسة وتشكل خطراً علينا وعلى ماشيتنا ولا حماية لنا غير هذه الأسلحة” قال أبو ناصر ذو الـ50 عاما.
السلاح والنار جزء لا يتجزأ من حياة البدو، فالأول للدفاع عن النفس من المتطفلين واللصوص والثانية لإخافة وحوش البراري.
“إذا تم تجريدنا من أسلحتنا فلا يبقى مال ولا عيال” أضاف أبو ناصر.
تشكل الصحراء الجنوبية مثلثا حدوديا واسعا بين العراق والسعودية والكويت، وهي مساحة كبيرة جدا ومن الصعب السيطرة عليها أمنيا.
بين مدة وأخرى تشهد هذه الصحراء أنشطة ممنوعة كتبادل المخدرات والسرقة والتهريب والدخول غير المشروع للصيادين الأجانب إلى العراق للاستمتاع بالصيد، وتحديدا صيد الصقور وطائر الحبارى.
“أعداد شرطة الحدود قليلة جداً. حتى الدعم اللوجستي من قبل وزارة الداخلية لهذه القوات بسيط ولا يفي بالغرض. طلبنا من الحكومة الاتحادية تزويدنا بأفواج من الطوارئ” قال لنا أحمد منفي محافظ المثنى.
لكن على الرغم من ذلك يؤكد منفي أن البادية مؤمّنة ولا يوجد خطر على سكانها، بفضل الفرق الجوالة والاستطلاعات المستمرة.
“نقدم لهم الدعم بين مدة وأخرى. نزودهم بالأعلاف ونسجلهم في مؤسسات الدولة للحصول على إعانات مالية” قال منفي.
لا يعول البدو الرحّل كثيرا على الحماية الحكومية لهم، فهم اعتادوا مواجهة مخاطر الصحراء باستخدام أسلحتهم، لذا يقولون إنهم غير ملزمين بتطبيق قرارات الحكومة التي يتهمونها بالسعي إلى سلب قوتهم ووجودهم وتهميشهم حتى يتركوا البادية والصحراء.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
مدارس مُهجَّرة: لماذا لن ينتهي "الدوام المزدوج" و"الاكتظاظ" في العراق؟
10 ديسمبر 2024
الهيدروجين الأزرق والشمس.. عن بدائل النفط "الممكنة" في العراق
07 ديسمبر 2024
الأشجار والدولار على المحكّ في سنجار
03 ديسمبر 2024
الصيادون يبيعون "الآرو".. الوجه القاسي للتغيُّر المناخي على سكان الأهوار
28 نوفمبر 2024
شعر أبو سالم البدوي بالسعادة عندما رأى بين مُعداتنا ما يمكن أن يساعده في تخطي محنته، فقد كاد اليأس أن يستحوذ عليه كلياً.
كنا على موعد مع أبي سالم ليرافقنا في جولة استكشافية في بادية المثنى، وعندما وصلنا إلى مكان اللقاء وجدنا القلق والتوتر يهيمنان عليه.
لقد تاهت إبله في الصحراء.
قضى الرجل أسبوعين وهو يبحث عن القطيع الضال المكون من أكثر من 200 رأس، ولكن في صحراء تمتد على مساحة 18 مليون دونم، لا يسهل العثور على ما يُفقد.
طلب الاستعانة بطائرة مسيرة “درون” مخصصة للتصوير كانت بحوزتنا للبحث عن الإبل، فأطلقناها على ارتفاع مئات الأمتار وحركناها في مختلف الاتجاهات، ولكن من دون جدوى.
اختار أبو سالم بعد ذلك العودة إلى طريقته التقليدية في التعامل مع هكذا مواقف.
وجود سيارتنا سيسهل عليه المهمة.
ابتعدنا كثيرا عن نقطة الالتقاء، وفجأة طلب أبو سالم إيقاف السيارة.
ترجل ومشى قليلا ثم أشار بسبابته إلى الأرض “هذه آثار أقدامها وهذا روثها. إبلي مرت من هنا”.
بدأت علامات الغبطة والارتياح تظهر عليه، فقد اقترب من إيجاد قطيعه. على بعد بضعة كيلومترات شاهدنا ثلاث نوق واقفة فاتجهنا نحوها.
“هذه النوق لي” قال أبو سالم بعد أن رأى العلامة H على أجسادها.
تقدر إحصاءات المستشفى البيطري في المثنى عدد الإبل في البادية بـ16 ألف رأس يرعاها البدو الرحّل، ولكي لا تختلط الحيوانات ببعضها، يضع كل واحد منهم علامة على أجسادها باستعمال حديدة محمرّة بالنار.
يحضر شهود عملية طبع العلامات على الإبل بالكيّ حتى لا يدعي أحد أنه صاحب علامة تعود لغيره.
بات على أبي سالم العثور على بقية القطيع، وهو متخوف من عبوره الحدود إلى السعودية، فمهمة العثور على الإبل ستكون صعبة جداً في هذه الحالة بسبب الإجراءات الإدارية لشرطة الحدود.
بعد مسير بسيارتنا ذات الدفع الرباعي مدة ثلاث ساعات، عثرنا على القطيع، فاستحق ذلك من أبي سالم لحنا من الفرح والعتاب.
“لو أننا لم نعثر عليها هنا لاضطررنا إلى التوجه نحو موقع بيتنا السابق لأنها ستكون موجودة هناك على الأرجح” قال الرجل البدوي.
استثمارات خانقة
تهيم الإبل في الصحراء عادة بحثا عن الماء والغذاء، والمراعي وفيرة قرب الحدود العراقية-السعودية، إذ يقول البدو الرحل إنها تكفيهم موسم الشتاء كاملا بعد أن منعت السلطات العراقية إبل الدول الأخرى من عبور الحدود ودخول مراعيهم خلال السنوات الأخيرة.
لكنها تنحسر في الصيف بسبب الجفاف.
ويستغل الطفل مراد (11 عاما) وفرة المراعي في الشتاء لرعي إبل أبيه، فيخرج بها منذ الصباح الباكر حتى العصر.
لم يدخل مراد مدرسة في حياته ولم ير المدينة قط، لكنه يجيد الحساب ويحسب إبله كاملة دوماً، كما أنه يجيد القراءة بالمستوى الكافي لتسيير أموره اليومية، وقد تعلم ذلك من أبيه.
وعلى الرغم من صغر سنه، يعرف مراد الصحراء حق المعرفة، شأنه شأن بقية البدو الرحل، الذين يجوبونها بقطعانهم من الصباح حتى المساء قبل أن يعودوا إلى بيوتهم بصحبة القطعان أو من دونها، فالإبل تستطيع العودة من دون رعاتها عبر السير وراء جمل تم تعليق جرس على عنقه بعد انتهائها من الأكل في المراعي.
باتت المراعي المقدرة مساحتها بنحو ثمانية ملايين دونم مهددة من مشاريع الاستثمار في البادية.
تزحف تلك المشاريع على مراعي البدو وتضيّق الخناق عليهم.
بعض ساكني الصحراء تحدثوا عن عمليات خطف طالت عددا من الرجال البدويين، حيث تم احتجازهم لأيام وتعذيبهم بهدف تخويفهم وحملهم على مغادرة مناطقهم لتبقى خالية أمام المستثمرين.
لكن البدو غير مستعدين على ما يبدو لمغادرة الصحراء بسهولة في ظل تعلقهم بحكاياتها الممتدة إلى أزمان بعيدة مثل حكاية “طريق زبيدة”.
روى لنا بعضهم تفاصيل هذه الحكاية المتوارثة عن الأجداد.
تقول الحكاية إن قوافل الحج كانت تمر ببادية المثنى على “طريق الحاج” قادمة من تركيا ودول أخرى مرورا بالموصل والأنبار والنجف والمثنى ثم وصولا إلى السعودية حيث مدينة مكة، في رحلتين عرفتا برحلة الشتاء والصيف.
“طريق الحاج أسسته الحاجة زبيدة زوجة هارون الرشيد، وهو مليء ببرك ماء لاستراحة القوافل البدوية” قال أبو سالم.
ولم يبق من تلك البرك إلا آثار قليلة شاخصة من دون حمايتها أو ضمها كتراث عراقي.
“هذه آبار جن سليمان”، صاح أبو سالم وهو يشير إلى أربع آبار يصل عمق الواحدة منها إلى أكثر من 150 مترا.
تذكر أساطير البدو أن موكب النبي سليمان مر ذات مرة في هذه المنطقة المسماة الشبمرم، وكانوا بحاجة للماء فحفروها ليشربوا منها.
وما تزال هذه الآبار موجودة حتى اليوم، ويأتي البدو ليتزودوا من مائها لهم ولحيواناتهم.
الشعر للشتاء والقطن للصيف
بعد أن أوشك النهار على الانقضاء، توجهنا إلى بيت أبي سالم، وهو -كسائر بيوت البدو في الشتاء- مصنوع من شعر الماعز.
لا يبني البدو بيوتهم من الطين أو الطابوق لأنهم دائمو التنقل.
يُصنع البيت البدوي من شعر الماعز بعد حياكته بمكائن خاصة وبأحجام مختلفة حسب طلب صاحبه، ثم يثبت بالحبال والأوتاد في الأرض ويستند إلى عمود من الخشب يقسمه إلى نصفين: الربعة والمِحرم.
تُخصص الربعة للرجال وضيوفهم، والمحرم للنساء والطبخ، وتكون الربعة أكبر من المحرم، على اعتبار أن للرجل البدوي الأولوية والسلطة العائلية المطلقة.
“بيت الشعر يُطلب حسب مواسمه، وعادة ما يكون لونه الأسود الذي يصنع من شعر الماعز، وهو دافئ في الشتاء، أما في الصيف فيصنعون بيوتهم من القطن لأنه يعكس أشعة الشمس” قال هايف إحسان، تاجر بيوت بدوية.
ثمة عادات وأعراف تحكم الصحراء وبيوتها.
يحدثنا رائد مجباس، أحد سكان البادية وشيوخها، عن بعض تلك العادات والأعراف.
“عند مجيء الضيف إلينا لا يُسأل عن حاجته قبل ثلاثة أيام، وتُقدم له القهوة والطعام، ولا يشاركه أهل الدار الأكل إلا واحد منهم يقوم بتقطيع الطعام له ويقف آخر بقربه يمسك وعاء ماء الشرب له”. قال مجباس.
هناك عادات وتقاليد تتعلق بتقديم وشرب القهوة العربية يرويها لنا مجباس.
وللقهوة العربية ميزة ومكانة خاصة لدى البدو، وهي أثمن هدية يمكن أن يحصل عليها البدوي.
“إذا امتنع البدوي عن شرب القهوة ووضع الفنجان أمامه فذلك يعني أن له حاجة عند صاحب الدار يطلب قضاءها له، فإن قضيت شرب قهوته كإشارة للرضى” قال مجباس.
لا يجوز أخذ القهوة باليد اليسرى، وإذا اكتفى الشارب من الفنجان الأول عليه أن يهزه عندما يسلمه للساقي، فالأخير لن يتوقف عن سكب القهوة في الفنجان قبل أن يهزه الشارب.
يشرب معدّ القهوة منها قبل الضيوف تأكيدا على سلامتها من السموم والشر، ويتم التوزيع في المرة الأولى بين الضيوف المميزين، وفي المرة الثانية يبدأ التقديم من جهة اليمين حتى النهاية من دون تمييز، وفقا لقاعدة شهيرة تقول “أول القهوة خص وثانيها قص”.
السلاح من وسائل العيش
لا يخفي أبو ناصر، أحد سكان البادية، قلقه بعد أن تداول أهل البادية أنباء عن نية الحكومة سحب السلاح وحصره بيدها، وهي خطوة إذا تمت ستعرضه وأسرته وممتلكاته للخطر.
“في الصحراء تعيش حيوانات مفترسة وتشكل خطراً علينا وعلى ماشيتنا ولا حماية لنا غير هذه الأسلحة” قال أبو ناصر ذو الـ50 عاما.
السلاح والنار جزء لا يتجزأ من حياة البدو، فالأول للدفاع عن النفس من المتطفلين واللصوص والثانية لإخافة وحوش البراري.
“إذا تم تجريدنا من أسلحتنا فلا يبقى مال ولا عيال” أضاف أبو ناصر.
تشكل الصحراء الجنوبية مثلثا حدوديا واسعا بين العراق والسعودية والكويت، وهي مساحة كبيرة جدا ومن الصعب السيطرة عليها أمنيا.
بين مدة وأخرى تشهد هذه الصحراء أنشطة ممنوعة كتبادل المخدرات والسرقة والتهريب والدخول غير المشروع للصيادين الأجانب إلى العراق للاستمتاع بالصيد، وتحديدا صيد الصقور وطائر الحبارى.
“أعداد شرطة الحدود قليلة جداً. حتى الدعم اللوجستي من قبل وزارة الداخلية لهذه القوات بسيط ولا يفي بالغرض. طلبنا من الحكومة الاتحادية تزويدنا بأفواج من الطوارئ” قال لنا أحمد منفي محافظ المثنى.
لكن على الرغم من ذلك يؤكد منفي أن البادية مؤمّنة ولا يوجد خطر على سكانها، بفضل الفرق الجوالة والاستطلاعات المستمرة.
“نقدم لهم الدعم بين مدة وأخرى. نزودهم بالأعلاف ونسجلهم في مؤسسات الدولة للحصول على إعانات مالية” قال منفي.
لا يعول البدو الرحّل كثيرا على الحماية الحكومية لهم، فهم اعتادوا مواجهة مخاطر الصحراء باستخدام أسلحتهم، لذا يقولون إنهم غير ملزمين بتطبيق قرارات الحكومة التي يتهمونها بالسعي إلى سلب قوتهم ووجودهم وتهميشهم حتى يتركوا البادية والصحراء.