أبديّة المعارك العشائرية في العراق

علي طه

08 تشرين الثاني 2022

لماذا تزداد العشائر قوّة وتلجأ إلى استخدام السلاح في كل مناسبة؟ لماذا تحتقر الدولة؟ ولماذا تساعد الأحزاب في إضعاف الدولة لصالح القبائل؟ وكيف انخرطت العشائر في تجارة المخدرات وتهريب النفط وسلمت من العقاب؟

تقع شهرياً العديد من المعارك العشائرية المسبوقة كالعادة بما يسمى بـ”الدگة” في محافظة البصرة، وهي تتصدر بقية المحافظات بذلك، وقد حدثت مؤخراً معركة طاحنة بين عشيرتي الحمادنة والبطاطنة في منطقة الكرمة. ولا يعد وصفها بـ”المعركة” شيئاً من قبيل المبالغة، إذ استخدمت بالواقعة الطائرات المسيّرة والأسلحة الثقيلة من قبيل مضادات الدروع والسلاح الأمريكي الحديث، وهذه ليست المرّة الأولى التي يستخدم فيها هذان النوعان من السلاح الذي ينبغي أن تحتكره الدولة بشكل خاص، فيما لم تتدخل قوات الأمن المجسّدة بالجيش إلا قليلاً، إذ طوّقت المنطقةَ بالكامل عندما استشعرت استخدام الأسلحة الثقيلة بيد أنها لم تحرك ساكناً بعدها. 

معارك يومية 

“الدگة” هي اللفظ العراقي لمصطلح الدقة، أي الهجوم على أحدهم باللغة الدارجة، وقد باتت مقرونة في العراق بالعشائر ونزاعاتها الداخلية، وتعني أن تقوم مجموعة من عشيرة معينة بإلقاء القنابل والرصاص على بيت أحدهم من العشيرة المقابلة ليتم تحذيره بما سيحدث لو لم يتم التوصل لاتفاق يرضي العشيرة المُهدِّدة. 

لا توجد إحصاءات دقيقة ودورية عن الخسائر المادية والجسدية جراء هذه الهجمات من قبل وزارة الداخلية، لكن بالإجمال تتراوح بين بضعة أشخاص إلى العشرات في حالات نادرة، مثل أن تنخرط عشيرتان بكامل رجالها في القتال؛ هذا على صعيد النزاع الواحد. أما سنوياً فحتماً تبلغ الخسائر العشراتِ، علاوة على حرق البيوت في بعض الوقائع. 

تعد الدگة العشائرية حدثاً شبه يومي في عموم العراق، وهي جزء من منظومة حكم العشائر الذي تنامى منذ 2003 عقب الاحتلال الأمريكي للعراق. ويمكن وصفه بأنه بات حالة غالبة على منظومة الدولة وقانونها. 

تتعدد أسباب الدكات وما يليها من معارك؛ من الثقيلة مثل تلك المتعلقة بالتجارة والتهريب والمقاولات، إلى تلك البسيطة التي قد تنجم عن تخاصم حول ملكية دجاجة أو حول خردة تصريف أموال بسيطة مثل “ألف وخمسمائة دينار” (نحو دولار واحد). وإن يكن موضوع هذا التخاصم ليس ذا قيمةٍ بحدِّ ذاته، لكن تكمن خلفه روحاً مستفزة تعتبر أدنى خصام معها تهديداً لوجودها، وبالتالي ينبغي ردع المقابل المهين للكرامة بأي ثمنٍ، فمن لا يفعل ذلك يلحقه العار من قبل عشيرته وعشيرة الخصم.  

إرث ثقيل

بين عامي 1916 و1918 كيّف الاحتلال الإنجليزي وضعياتٍ سياسيةً وقانونيةً تمثل امتيازاً للعشائر، إذ كان الملك فيصل الأول يشكو من قلة الجنود المسلحين قياساً بنسبة الأسلحة عند العشائر، وهو ما يذكره حنّا بطاطو في الجزء الأول من كتابه حول العراق. كان سبب التسليح سياسياً صرفاً، إذ ما كان القادة الإنكليز يريدون للملك وحكومته أن ترجح كفته على العشائر لكونه ذا ميول تتعارض بجزء كبير مع مصالح بريطانيا وسياستها الاستعمارية آنذاك. ومعروف عن العشائر أنها حوربت من قبل العثمانيين كثيراً، واستعادة قوة العشائر يوقف أو يؤخر من قطار التمدن العراقي الذي بدأ من أواخر القرن الثامن عشر على يد أنصار الإصلاحات العثمانية. وأضيف للتسليح والتمثيل السياسي للعشائر تشريع قانون يسمح لشيوخ العشائر بالتصرف خلاف القانون الذي يحكم بقية الشعب، فكان للشيوخ سلطة واسعة تجعل العشائر خارج القانون العام بنسبة ما. 

في 1959، بعد سنة من الانقلاب الجمهوري، ألغي القانون الخاص بالعشائر ذو الطابع البريطاني. ومع تبدّل الأنظمة العسكرية في الستينيات كان صوت العشائر أقل علواً، واستمرت هذه الحال حتى حرب الخليج الثانية عندما هُزم نظام صدام في حرب الكويت، وثار عليه السكّان في المناطق الوسطى والجنوبية. 

ونتيجة لضعف شرعية النظام الحاكم ومحاولته استعادتها، أعيد الاعتبار للعشائر، فتعكز النظام عليها كما التجأ المجتمع نفسه إليها بقوة أخذت بالتنامي من جديد.  

وفي عام 2003، سمح الاحتلال الأمريكي للعشائر بنهب مؤسسات الجيش من الأسلحة، وحدث فراغ أمني كبير، بل وحتى بعد إعادة تأسيس الجيش حدث فراغ مؤسساتي بنحو لم يستطع الجيش الوقوف بوجه العشائر، بل قامت حكومة نوري المالكي الأولى (2006-2010 ) بدعمها معنوياً ومادياً بالمال أو السلاح. فإذا كانت العشائر لم تستطع ممارسة النزاعات في ظل النظام السابق لكون النزاعات كانت محتواة إلى حد كبير من قبل النظام الحاكم، رغم إعادة الاعتبار للنزعة العشائرية بشكل رسمي، فإنها في ظل النظام الجديد باتت قوة لا يمكن الوقوف ضدها، بل وتزيد الحكوماتُ من  جبروتها. 

وفي 2014 منحت مقاومة العشائر لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” اعتباراً غير مسبوق، لاعتبارها قوة ذات فضل بتخليص البلد من التنظيم الإرهابي، أسوة بالمليشيات. وقتها فتحت أبواب تهريب الأسلحة من الخارج ورخُصَ ثمنُها كثيراً فكثر الطلب عليها إثر ذلك، وبلغ عدد قطع السلاح خارج سلطة الدولة بالملايين، وتعاظمت قوة العشائر مما أدى بها لتطوير قدراتها بالقتال وتضاعف حجم الخسائر وعدد النزاعات، مما استدعى السلطة القضائية إلى اعتبار “الدكة العشائرية” فعلا إرهابيا، ويُحاكم من يتورّط بـ”الدكات” وفق قانون مكافحة ‏الإرهاب رقم (13) لسنة 2005. 

إعادة إنتاج التقليدية 

في تحليله المعمّق للمجتمع العراقي يرى الباحث الراحل فالح عبد الجبار في كتابه “الدولة – اللوياثان الجديد”، أن المجتمع العراقي في العهد الجمهوري بلغ مراحل متقدمة للتخلّص من التكتلات القبلية السائدة بالعهد الملكي، وذلك مع صعود فئة الضباط الأحرار بشكل تدريجي، فتنامت هذه الفئة مع تنامي مستويات ضعف الروابط التقليدية التي هي قوام المجتمع التقليدي. وهذا أمر ضروري لتحقيق المجتمع المدني مكان المجتمع التقليدي، فتفكّكُ الأواصر التقليدية لا بد منه كمرحلة أولى. 

بيد أن المجتمع العراقي عجز عن ذلك في المرحلة الثانية، إذ وجد نفسه مجتمعاً غير تقليدي لكنه ليس مدنياً أيضاً، لكون الأخير لا يكون إلا من خلال روابط بديلةٍ تتمثل في إنشاء منظمات المجتمع المدني. تحول المجتمع على إثر ذلك إلى ذرات من الأفراد مستقلةٍ عن بعضها البعض، وهذه بيئة منعشة للدكتاتورية، إذ يعدِم فيها المجال العام الذي هو بيئة التعددية يمارس على أرضها المجتمع المدني وظيفة تمدين المجتمع عبر ممارسة التعددية، بينما الدكتاتورية لا تحترم التعددية مطلقاً، وتواصلَ إرثها هذا حتى ذروته مع نظام صدام حسين، حيث بلغ منتهاه أثناء حرب الخليج الثانية. 

 واللافت بالأمر أن المجتمع قام بالرجوع إلى الدين والعشيرة في تسعينيات القرن الماضي تحديداً، وذلك كتعويضٍ عن انعدام المجال العام الذي تزدهر فيه التعددية والمؤسسات البديلة بصفتها منظماتِ مجتمعٍ مدني، فكانت الردّةُ إلى الوراء ردّةً عنيفةً على الجانبين العشائري والديني. والأنكى من ذلك إن الدولة، لكونها مستملَكةً من قبل حكومة البعث، فقد تديّنت تابعةً بذلك المجتمع، كما وباتت قبليةً، وذلك لكي تجدِّد شرعيتها بعدما أفِلتْ شرعيتُها السابقة. 

 والمثال الأبرز، على الصعيد الديني، هو الحملة الإيمانية الشهيرة في مطلع تسعينيات القرن الماضي. أما على الصعيد القبلي فقد تجسد بمظاهر لبس الزي العشائري من قبل صدّام حسين وتوسع لقاءاته بالعشائر، كما حاول نظام البعث تسمية شيخ لكل عشيرة لا يجوز الاعتراض عليه أو منافسته، وهو ما يعرف على نطاق واسع بتسمية “شيوخ ما بعد الـ90″، والذين اختيروا غالباً على أساس ولائهم للرئيس وحزبه، كما أتيح للعشائر الاستعراض بالسلاح أمام الرئيس حين مقابلتهم. 

بالتالي فإن هذا يعني أن الأزمة العشائرية لا تقتصر على مجال محددٍ ولا بنطاق جغرافي بعينه داخل الدولة، إنما هي تعكس مشكلة تحوّلٍ مجتمعي بالكامل. 

العشائر في البصرة ونواحيها 

وإذ تحكم المنظومة العشائرية عموم العراق، فإنها تشتد في مناطق أكثر من غيرها. وحال محافظة البصرة هو الأشد من غيره، إذ تشتغل فيها كثيراً ثنائية “البصاروة” و”اللفو” داخل المركز، كما ثنائية “الحضر” و”المعدان” في الأطراف. وتعني الأولى الفرق بين البصريين الأصليين وبين الآتين من المحافظات، وتعني الثانية الفرق بين المنحدرين من عائلات تمركزت في المراكز الحضرية وبين المنحدرين من الأصول الريفية والبدوية. 

ذهبنا إلى أكثر مناطق أطراف البصرة محنة مع الدكات العشائرية الشديدة، وهي ناحية الكرمة في قضاء الهارثة شمال البصرة، حيث تتواجد أربع قبائل رئيسة هي البطاطنة والحمادنة والگرامشة والحلاف. بعد سقوط حكم صدام حسين، صعد نجمُ هذه القبائل وابتدأ القتال فيما بينها، حيث تنشأ المعارك لأسباب غير عشائرية بالضرورة، بيد أن استدامتها يكون مردها عشائرية بحت. عادة ما تكون الأسباب نتاج تهريب النفط أو تجارة المخدرات أو الحصول على المقاولات، وهو أمر يعترف به بعض شيوخ العشائر علناً. فما أن يختلف أفراد من عشيرة فلانية حول مغنم ما حتى ينذرون الخصم بالقتال، فيتم تحشيد أقرباء الطرفين المختلفين من دون علم بسبب الخلاف، ويتطوّر الخلاف ليكون هو موضوع خلافٍ أعمق، وبالتالي لا تتم مناقشة أسباب الخلاف الذي أدى للقتال بل مناقشة من قتل فلاناً وكم علينا أن نقتل. 

 يقع قضاء الهارثة شمال شرق البصرة (اعترف به كقضاء عام 2018)، ويبلغ عدد سكانه بحسب إحصاء عام 2014 الرسمي 154 ألف نسمة. وتعد ناحية الكرمة أكثر مناطق القضاء اكتظاظاً بالسكان إذ يصل العدد إلى 80 ألف نسمة، كما تعتبر الأكثر أهمية ففيها مجمع جامعة البصرة ومطار البصرة الدولي ومعمل التمور.  

تعتبر عشيرة الگرامشة أكثر عشائر الهارثة ممارسة للنزعات المسلحة والدكات العشائرية، وهي الأكثر عنفاً من غيرها لحد بعيد، على الرغم من أن تعداد العشيرة لا يتعدى 5 آلاف فرد، ويسكنون في مناطق معينة وهي الكرمة والدير والشخاطة وكتيبان والماجدية ونهران عمر ومنطقة معسكر مجاهدي خلق السابق في الشافي.

المعروف عن قبيلة الگرامشة أنها تنتمي لفئة “المعدان”، وهو ما يتفاخر به أفرادها قِبال “الحضريين”. ويقال إن المعدان معادون للدولة في أصل وجودهم، أي تحديداً هم معادون للقانون، لا يمتثلون له لكونه يجعلهم مثل الحضريين.  

الطابع السائد عند الگرامشة وأغلب العشائر المنتمية للمعدان أن النساء هي من تتكفّل بالإعاشة بينما الرجال هم من يقومون بالحماية، وثنائية الأمن والغذاء أمران تقليديان تتقاتل حولهما العشائر، ويصل الأمر إلى حدود محرجة وهو أن تقوم المرأة بتغطية وجه زوجها بالشال “غطاء رأسها” صباحاً فينهض ليجده ملقى عليه شاعِراً بالعار، حيث تقصد زوجته من ذلك أنه جبان لا يستطيع تأدية دوره بأخذ ثأر قريبه المقتول. 

زمن الثأر اللامتناهي  

بين كثرة العشائر وتوسع نفوذها لا ينتهي ضيم أهالي الكرمة والثأر يتراوح بين قتل وجرح وعدم استقرار أمني. فمثلاً استمرت إحدى المشكلات بين عشيرتي الحلاف والبطاطنة تسع سنوات بنحو متقطع على نوبات، حتى انتهت بفقدان وجرح العشرات. ومن المعروف أن هنالك ما يسمى بـ “الفصل”، وهو دِيّة تقدمها عشيرة القاتل لعشيرة المقتول، وقد تبلغ درجات مرعبة في هذه المناطق، لكن كثيراً ما يتم التغافل عن الفصل، وتنقض عشيرةُ المقتول لقتل أحد أبناء عشيرة القاتل، ثم لا يهدأ الأمر، فتقوم العشيرة التالية بقتل أحد من عشيرة الذي قتل منها، وهكذا تستمر المقاتل. 

إجمالاً يمكن تحديد عاملين لهذه الإدامة، أولهما عدم اللجوء للفصل أو الاحتكام لما هو معروف بـ”الدية” كمبدأ حاسمٍ ملزمٍ وعدم الاكتفاء بقتل شخص من عشيرة القاتل كرد فعلٍ على قتلها لأحد أبنائها. فلقد ذكر منتسب بقوات الأمن وهو من الهارثة رافضاً الكشف عن اسمه، ذكر أن ما يسمّى بگعدات “جلسات” التفاهم تتضمن أمرين، الفصل والتبرؤ من القاتلين، لكن هذا لا يغادر حدود الشيوخ، بينما الشباب لا يلتزمون بذلك وسرعان ما يتم تناسيه والاستمرار بعمليات أخذ الثأر المتبادلة. 

ما يمكن اعتباره عاملاً ثانياً هو أن القاتل ينتمي لعشيرة من بين عدة عشائر تشكل بمجموعها قبيلة واحدة، والثأر لا يستهدف القاتل بشخصه عادة، بل يستهدف شخصاً آخر لا ينتمي حتى لعشيرة القاتل بل لعشيرة أخرى للقبيلة نفسها، وهنا تشعر عشيرة المقتول بالغبن، فتتحرك بدورها لتأخذ ثأرها من القاتل الثاني، فتقتل هي الأخرى شخصاً ما من عشيرة غير عشيرة هذا القاتل، وهكذا تستمر السلسلة المأساوية. 

ذكر المنتسب أيضاً أن تكلفة السلاح بلغت في إحدى المعارك مليار دينار عراقي! ويذكر أن أحد تجار الأسلحة من أحد العشائر قام ببيع أسلحته إلى العشيرة الخصم في معركتها مع عشيرته لمجرد أن عشيرته لم تشترِ السلاح منه! وأما النفوذ العشائري فيصل حد إغلاق بعض المناطق بالكامل، ليس من قِبل الجيش، بل من قِبل عشيرة ما، الگرامشة مثلاً، ويقول إننا كنا سابقاً نعمل في شركات النفط التي يمرّ طريق دخولها من منطقة العشيرة الخصم فنزوّر هوياتنا لكي ننجو من القتل العشوائي على أساس الانتماء.  

العراق: دولة أم عشائر؟ 

الباحث في شؤون العشائر مقداد أبو الهيل وهو ناشط مدني يعمل في معهد “نيسان للوعي الديمقراطي”، وسبق له أن ترشّح للانتخابات النيابية السابقة ولم يحالفه الفوز، يقدم تحليلاً مفاده إن الدولة غير جادةٍ في معالجة مشكلة العشائر، ليس بسبب أن قوّتها لا تضاهي قوّة العشائر، بل لأن نسق الثقافة العشائرية متغلغلٌ في عمق النخب السياسية الحاكمة. فلا تمايز بين الحاكمين (الساسة) وبين غير الحاكمين (المدنيين)، وهو شرط ضروري لإنشاء وتنمية المجتمع المدني. 

ويذهب أبو الهيل في تحليله إلى أن تغلغل الثقافة العشائرية بالحكومة، أدى إلى كون الحكومة المتشكّلة من الأحزاب هي نفسها المنتمية لعشائرها، وبذلك هي من تمنع الدولة من تحدي العشائر. يعني أن الأحزاب الإسلامية الحالية المشكلة للحكومات، والتي لها أجنحة مسلحة خطرة، تهيمن على مفاصل الدولة مما أدى لتعطيل وظيفتها الحقة. ولأن المليشياوية والعشائرية في تاريخهما وجوهرهما ثقافتان وكيانان يعملان ضد الدولة، لذا يلتقيان في النتيجة الأخيرة المتمثلة بإضعاف الدولة بشكل مضاعف بعدما يستفحلان عند أدنى ضعف لها. 

وإذا تدخلت الدولة، فوحده الجيش، وليست الشرطة، من يخوَّل بذلك، وهو لا يتدخّل إلا عندما تتجاوز المعارك حدود المعتاد. وقد يعود ذلك إلى كون منتسبي الجيش يتوزعون بتقسيم جغرافي يختلف تماماً عن التقسيم المعتمد للشرطة، أفراده ليسوا من مناطق القتال التي تقع فيها المعارك العشائرية نفسها. بينما منتسبو الشرطة ينحدرون من مناطقهم المحلية، ما يجعل الشرطة لا تتدخل سواء من باب التواطؤ مع عشيرتها أو الاتقاء من العشيرة الأخرى. فمن جهة، ينتمي الضباط الكبار بالشرطة لعشائر معينة ولا رغبة حقيقية لديهم بمواجهة عشائرهم، ومن جهة أخرى، ينتمي أفراد الشرطة ذوو الدرجات الأدنى إلى عشائر قد يتم استعداؤها من قِبل عشائر أخرى إذا تعرضوا لعقوبة من هذا الشرطي! 

ويشخّص الباحث أبو الهيل لبّ المشكلة على أنها تكمن بالدولة بالدرجة الأساس، وإن ضعف الدولة وذبول هويتها الرئيسية يقابله استقواء العشيرة واستفحال الهويات الفرعية، ويضيف أن القوّة كلما توفّرت بيد المواطنين قِبال تعامي الدولة النسبية بردعهم سيجعل المواطن يذهب إلى أقصى درجات العنف. ويؤكد أبو الهيل أن نزعة الهيمنة تسيطر على المواطنين العشائريين بشكل تلقائي ومتنامٍ، ما دامت الدولة غير مهيمنةٍ عليهم.

نظرة من الداخل 

للشيخ خلف لابد، وهو أحد مشايخ الحلاف، نظرة مختلفة، إذ يرى أن الابتعاد عن جادة الدين هو سبب الاقتتال بين العشائر، علاوة على عدم الالتزام بالأعراف، مشيراً إلى أن هنالك تسع عشائر في البصرة أصيلة (وهي بحسبه الحلاف والعبادة والعيدان والمطور وتميم إلخ)، وبقية العشائر تعتبر دخيلة. من هنا فهو يرى أن أعراف العشائر الدخيلة سادت في البصرة، من قبيل الكوامة العشائرية، التي لم تكن معروفة في البصرة قبل مجيء هذه العشائر بالفترة الأخيرة بحسبه.  

للشيخ اتصالات وثيقة بمرجعية محمد سعيد الحكيم، وهو أحد مراجع الشيعة الكبار، ويقول إنه ذهب إليها كثيراً وناقش معها التفاصيل، ويعتبر أن لديها إمكانيات هائلة بمعرفة أوضاع البصرة قد تفوق حتى معلومات الاستخبارات، ورغم ذلك فالمرجعية مقصرة بحق البصرة. ولطالما تحدث معها بما يجب فعله لكن لا أحد يهتم كما يقول، وهو يرى ضرورة تشكيل لجان من قبل المرجعية تذهب للبصرة كل أسبوعين من أجل القيام بدور إيجابي لمنع ما يحدث بين العشائر. 

فالأمور باتت مأساوية حد أن تحدث معركة بين عشيرتي الحمادنة والبطاطنة بسبب خلاف حول تنصيب “جادر” مخصص لممارسة طقوس العزاء الحسيني، ويخبرنا أن عملية قتل حدثت فيما كانت هناك دبابة عسكرية تبعد عن مكان الحادثة خمسين متراً. 

يعتقد الشيخ خلف أنه يغيب الالتزام بالقانون في الدولة، من رأس الهرم وحتى قاعدتها، وأن الشيوخ “الأصلاء والحقيقيين” هم من يحلون المشاكل. لكن من جانب آخر هنالك شيوخ لا يخرجون لحل المشاكل إلا بإكرامية مالية مُرضية، معتبراً تلك حالة سيئة وتؤكد أن فاعلها ليس شيخاً على وجه الحقيقة، ومن المظاهر السلبية تلك عدم السيطرة على الأتباع والامتناع أو الضعف عن تسليم القاتل مباشرة. 

يتحدث الشيخ بتفصيل عن مشكلة الدولة تجاه العشائر، فهو يتفق مع الفكرة القائلة بأن النعرات العشائرية بدأت تنمو وتتصاعد بعد الانتفاضة الشعبانية عام 1990، وأن الدولة بظل نظامها الجديد لم تسن قانوناً خاصاً بالعشائر بدل الالتجاء إلى قانون العقوبات العامة والتي لا تعالج ظاهرة الاقتتال العشائري بدقة.  

يستمر الشيخ بحديثه إلينا حول حجم ما يحدث، فيقول إن بعض الفصول/الديات بلغت مليارا ونصف المليار دينار، كما أنه ليس مدعاة للاستغراب لو اكتشفنا يوماً أن لدى العشائر سلاحاً كيمياوياً. وهو يصرح بأن أسباب الاقتتال تخص أموراً من قبيل الهواتف النقالة، وتعاطي المخدرات أو المتاجرة بها والتعامل بالربا “الفايز”، وكذلك المقاولات، فبعض العشائر تأخذ حصة من المال تسمى عندنا بـ”الكومشنات”، وبخلاف ذلك ستحدث معارك طاحنة. 

ويختم حديثه بأن الدولة غير جادة بمعالجة ما نعانيه على يد تلك العشائر غير الأصيلة، لكون الحكم بالبصرة بيد عشائر معدودة، وليس من قبل أهل البصرة، ولذلك عندما تخرج الدولة على عشيرة معينة من أجل التفتيش عن الأسلحة، يقوم المسؤولون بالاتصال بها وتحذيرها مقدماً، وعندما يصلون يختفي السلاح طبعاً. 

بنية لا تصلح من ذاتها 

بالعودة لأبي الهيل، فهو يقول إن المشكلة تبدأ بالدولة لا بالعشيرة، فالثانية ليست سبب ضعف الأولى، بل نتيجة لضعفها، ومن يضعِفها هي الأحزاب بالدرجة الأساس، إذ أن الأحزاب حامية للعشائر التي تعدها الضامن لأصوات تؤهلها للفوز بالانتخابات، وهكذا الأمر هو تبادل بالمنفعة. فالكثير من قادة الكتل السياسية والمناصب التنفيذية الرفيعة، بحسب أبي الهيل، قد يكونون صادقين في أمنياتهم بالإصلاح، لكنهم غير قادرين عليه من حيث إن وسيلة إصلاح الفساد فاسدةٌ هي بالذات، وإذا كان عليهم تطبيق الإصلاح الحق فعليهم البدء بأنفسهم وأتباعهم وهذا يعني تقويض وجودهم ذاته وهو أمر متعذّر بطبيعة الحال. لذا تكثر الدعوات لحلِّ المليشيات لكن لا أحد من الداعين يفعل ذلك قبل غيره، فقدانه القوّة يعني فقدانه وجوده. إذن، بظل المعادلة الحالية التي تعكس معضلة وجودية لا أفق لحل مشكلة العشائر. 

ويذكر أبو الهيل أن المجتمع العراقي، وبنحوٍ أخصّ مجتمع “الكرمة”، لم يكن يتقاتل عشائرياً قبل التسعينيات، رغم وقوع الكثير من الخصومات والمشاحنات بين أفراد عشائر مختلفةٍ، فلا يتطوّر الأمر لمعارك عشائريةٍ. أما منذ التسعينيات، فقد شاعت قيمٌ مغايرةٌ بين العشائر قوامها احتقار الالتجاء للدولة واعتباره عاراً، بل وقامت بابتكار سردياتٍ مغزاها الحنين لماضٍ عشائري غيرِ موجود أصلاً، فيتم استذكار الإيجابيات وتضخميها على حساب السلبيات المطمورة، وهو ما تعبّر عنه مقولة “لولا العشيرة لأصبحنا بخبر كان”. معنى هذا القول إن العشيرة ضروريةٌ لحماية الفرد من تغوّل العشائر الأخرى، أو بعبارة أخرى، لا بدّ من العشيرة لحلحلة المشاكل التي لا تقوى على حلّها الدولة. لكن الناس تنسى أن المشاكل التي تستدعي العشائر لحلحلتها أساسها العشائر نفسها! 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

تقع شهرياً العديد من المعارك العشائرية المسبوقة كالعادة بما يسمى بـ”الدگة” في محافظة البصرة، وهي تتصدر بقية المحافظات بذلك، وقد حدثت مؤخراً معركة طاحنة بين عشيرتي الحمادنة والبطاطنة في منطقة الكرمة. ولا يعد وصفها بـ”المعركة” شيئاً من قبيل المبالغة، إذ استخدمت بالواقعة الطائرات المسيّرة والأسلحة الثقيلة من قبيل مضادات الدروع والسلاح الأمريكي الحديث، وهذه ليست المرّة الأولى التي يستخدم فيها هذان النوعان من السلاح الذي ينبغي أن تحتكره الدولة بشكل خاص، فيما لم تتدخل قوات الأمن المجسّدة بالجيش إلا قليلاً، إذ طوّقت المنطقةَ بالكامل عندما استشعرت استخدام الأسلحة الثقيلة بيد أنها لم تحرك ساكناً بعدها. 

معارك يومية 

“الدگة” هي اللفظ العراقي لمصطلح الدقة، أي الهجوم على أحدهم باللغة الدارجة، وقد باتت مقرونة في العراق بالعشائر ونزاعاتها الداخلية، وتعني أن تقوم مجموعة من عشيرة معينة بإلقاء القنابل والرصاص على بيت أحدهم من العشيرة المقابلة ليتم تحذيره بما سيحدث لو لم يتم التوصل لاتفاق يرضي العشيرة المُهدِّدة. 

لا توجد إحصاءات دقيقة ودورية عن الخسائر المادية والجسدية جراء هذه الهجمات من قبل وزارة الداخلية، لكن بالإجمال تتراوح بين بضعة أشخاص إلى العشرات في حالات نادرة، مثل أن تنخرط عشيرتان بكامل رجالها في القتال؛ هذا على صعيد النزاع الواحد. أما سنوياً فحتماً تبلغ الخسائر العشراتِ، علاوة على حرق البيوت في بعض الوقائع. 

تعد الدگة العشائرية حدثاً شبه يومي في عموم العراق، وهي جزء من منظومة حكم العشائر الذي تنامى منذ 2003 عقب الاحتلال الأمريكي للعراق. ويمكن وصفه بأنه بات حالة غالبة على منظومة الدولة وقانونها. 

تتعدد أسباب الدكات وما يليها من معارك؛ من الثقيلة مثل تلك المتعلقة بالتجارة والتهريب والمقاولات، إلى تلك البسيطة التي قد تنجم عن تخاصم حول ملكية دجاجة أو حول خردة تصريف أموال بسيطة مثل “ألف وخمسمائة دينار” (نحو دولار واحد). وإن يكن موضوع هذا التخاصم ليس ذا قيمةٍ بحدِّ ذاته، لكن تكمن خلفه روحاً مستفزة تعتبر أدنى خصام معها تهديداً لوجودها، وبالتالي ينبغي ردع المقابل المهين للكرامة بأي ثمنٍ، فمن لا يفعل ذلك يلحقه العار من قبل عشيرته وعشيرة الخصم.  

إرث ثقيل

بين عامي 1916 و1918 كيّف الاحتلال الإنجليزي وضعياتٍ سياسيةً وقانونيةً تمثل امتيازاً للعشائر، إذ كان الملك فيصل الأول يشكو من قلة الجنود المسلحين قياساً بنسبة الأسلحة عند العشائر، وهو ما يذكره حنّا بطاطو في الجزء الأول من كتابه حول العراق. كان سبب التسليح سياسياً صرفاً، إذ ما كان القادة الإنكليز يريدون للملك وحكومته أن ترجح كفته على العشائر لكونه ذا ميول تتعارض بجزء كبير مع مصالح بريطانيا وسياستها الاستعمارية آنذاك. ومعروف عن العشائر أنها حوربت من قبل العثمانيين كثيراً، واستعادة قوة العشائر يوقف أو يؤخر من قطار التمدن العراقي الذي بدأ من أواخر القرن الثامن عشر على يد أنصار الإصلاحات العثمانية. وأضيف للتسليح والتمثيل السياسي للعشائر تشريع قانون يسمح لشيوخ العشائر بالتصرف خلاف القانون الذي يحكم بقية الشعب، فكان للشيوخ سلطة واسعة تجعل العشائر خارج القانون العام بنسبة ما. 

في 1959، بعد سنة من الانقلاب الجمهوري، ألغي القانون الخاص بالعشائر ذو الطابع البريطاني. ومع تبدّل الأنظمة العسكرية في الستينيات كان صوت العشائر أقل علواً، واستمرت هذه الحال حتى حرب الخليج الثانية عندما هُزم نظام صدام في حرب الكويت، وثار عليه السكّان في المناطق الوسطى والجنوبية. 

ونتيجة لضعف شرعية النظام الحاكم ومحاولته استعادتها، أعيد الاعتبار للعشائر، فتعكز النظام عليها كما التجأ المجتمع نفسه إليها بقوة أخذت بالتنامي من جديد.  

وفي عام 2003، سمح الاحتلال الأمريكي للعشائر بنهب مؤسسات الجيش من الأسلحة، وحدث فراغ أمني كبير، بل وحتى بعد إعادة تأسيس الجيش حدث فراغ مؤسساتي بنحو لم يستطع الجيش الوقوف بوجه العشائر، بل قامت حكومة نوري المالكي الأولى (2006-2010 ) بدعمها معنوياً ومادياً بالمال أو السلاح. فإذا كانت العشائر لم تستطع ممارسة النزاعات في ظل النظام السابق لكون النزاعات كانت محتواة إلى حد كبير من قبل النظام الحاكم، رغم إعادة الاعتبار للنزعة العشائرية بشكل رسمي، فإنها في ظل النظام الجديد باتت قوة لا يمكن الوقوف ضدها، بل وتزيد الحكوماتُ من  جبروتها. 

وفي 2014 منحت مقاومة العشائر لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” اعتباراً غير مسبوق، لاعتبارها قوة ذات فضل بتخليص البلد من التنظيم الإرهابي، أسوة بالمليشيات. وقتها فتحت أبواب تهريب الأسلحة من الخارج ورخُصَ ثمنُها كثيراً فكثر الطلب عليها إثر ذلك، وبلغ عدد قطع السلاح خارج سلطة الدولة بالملايين، وتعاظمت قوة العشائر مما أدى بها لتطوير قدراتها بالقتال وتضاعف حجم الخسائر وعدد النزاعات، مما استدعى السلطة القضائية إلى اعتبار “الدكة العشائرية” فعلا إرهابيا، ويُحاكم من يتورّط بـ”الدكات” وفق قانون مكافحة ‏الإرهاب رقم (13) لسنة 2005. 

إعادة إنتاج التقليدية 

في تحليله المعمّق للمجتمع العراقي يرى الباحث الراحل فالح عبد الجبار في كتابه “الدولة – اللوياثان الجديد”، أن المجتمع العراقي في العهد الجمهوري بلغ مراحل متقدمة للتخلّص من التكتلات القبلية السائدة بالعهد الملكي، وذلك مع صعود فئة الضباط الأحرار بشكل تدريجي، فتنامت هذه الفئة مع تنامي مستويات ضعف الروابط التقليدية التي هي قوام المجتمع التقليدي. وهذا أمر ضروري لتحقيق المجتمع المدني مكان المجتمع التقليدي، فتفكّكُ الأواصر التقليدية لا بد منه كمرحلة أولى. 

بيد أن المجتمع العراقي عجز عن ذلك في المرحلة الثانية، إذ وجد نفسه مجتمعاً غير تقليدي لكنه ليس مدنياً أيضاً، لكون الأخير لا يكون إلا من خلال روابط بديلةٍ تتمثل في إنشاء منظمات المجتمع المدني. تحول المجتمع على إثر ذلك إلى ذرات من الأفراد مستقلةٍ عن بعضها البعض، وهذه بيئة منعشة للدكتاتورية، إذ يعدِم فيها المجال العام الذي هو بيئة التعددية يمارس على أرضها المجتمع المدني وظيفة تمدين المجتمع عبر ممارسة التعددية، بينما الدكتاتورية لا تحترم التعددية مطلقاً، وتواصلَ إرثها هذا حتى ذروته مع نظام صدام حسين، حيث بلغ منتهاه أثناء حرب الخليج الثانية. 

 واللافت بالأمر أن المجتمع قام بالرجوع إلى الدين والعشيرة في تسعينيات القرن الماضي تحديداً، وذلك كتعويضٍ عن انعدام المجال العام الذي تزدهر فيه التعددية والمؤسسات البديلة بصفتها منظماتِ مجتمعٍ مدني، فكانت الردّةُ إلى الوراء ردّةً عنيفةً على الجانبين العشائري والديني. والأنكى من ذلك إن الدولة، لكونها مستملَكةً من قبل حكومة البعث، فقد تديّنت تابعةً بذلك المجتمع، كما وباتت قبليةً، وذلك لكي تجدِّد شرعيتها بعدما أفِلتْ شرعيتُها السابقة. 

 والمثال الأبرز، على الصعيد الديني، هو الحملة الإيمانية الشهيرة في مطلع تسعينيات القرن الماضي. أما على الصعيد القبلي فقد تجسد بمظاهر لبس الزي العشائري من قبل صدّام حسين وتوسع لقاءاته بالعشائر، كما حاول نظام البعث تسمية شيخ لكل عشيرة لا يجوز الاعتراض عليه أو منافسته، وهو ما يعرف على نطاق واسع بتسمية “شيوخ ما بعد الـ90″، والذين اختيروا غالباً على أساس ولائهم للرئيس وحزبه، كما أتيح للعشائر الاستعراض بالسلاح أمام الرئيس حين مقابلتهم. 

بالتالي فإن هذا يعني أن الأزمة العشائرية لا تقتصر على مجال محددٍ ولا بنطاق جغرافي بعينه داخل الدولة، إنما هي تعكس مشكلة تحوّلٍ مجتمعي بالكامل. 

العشائر في البصرة ونواحيها 

وإذ تحكم المنظومة العشائرية عموم العراق، فإنها تشتد في مناطق أكثر من غيرها. وحال محافظة البصرة هو الأشد من غيره، إذ تشتغل فيها كثيراً ثنائية “البصاروة” و”اللفو” داخل المركز، كما ثنائية “الحضر” و”المعدان” في الأطراف. وتعني الأولى الفرق بين البصريين الأصليين وبين الآتين من المحافظات، وتعني الثانية الفرق بين المنحدرين من عائلات تمركزت في المراكز الحضرية وبين المنحدرين من الأصول الريفية والبدوية. 

ذهبنا إلى أكثر مناطق أطراف البصرة محنة مع الدكات العشائرية الشديدة، وهي ناحية الكرمة في قضاء الهارثة شمال البصرة، حيث تتواجد أربع قبائل رئيسة هي البطاطنة والحمادنة والگرامشة والحلاف. بعد سقوط حكم صدام حسين، صعد نجمُ هذه القبائل وابتدأ القتال فيما بينها، حيث تنشأ المعارك لأسباب غير عشائرية بالضرورة، بيد أن استدامتها يكون مردها عشائرية بحت. عادة ما تكون الأسباب نتاج تهريب النفط أو تجارة المخدرات أو الحصول على المقاولات، وهو أمر يعترف به بعض شيوخ العشائر علناً. فما أن يختلف أفراد من عشيرة فلانية حول مغنم ما حتى ينذرون الخصم بالقتال، فيتم تحشيد أقرباء الطرفين المختلفين من دون علم بسبب الخلاف، ويتطوّر الخلاف ليكون هو موضوع خلافٍ أعمق، وبالتالي لا تتم مناقشة أسباب الخلاف الذي أدى للقتال بل مناقشة من قتل فلاناً وكم علينا أن نقتل. 

 يقع قضاء الهارثة شمال شرق البصرة (اعترف به كقضاء عام 2018)، ويبلغ عدد سكانه بحسب إحصاء عام 2014 الرسمي 154 ألف نسمة. وتعد ناحية الكرمة أكثر مناطق القضاء اكتظاظاً بالسكان إذ يصل العدد إلى 80 ألف نسمة، كما تعتبر الأكثر أهمية ففيها مجمع جامعة البصرة ومطار البصرة الدولي ومعمل التمور.  

تعتبر عشيرة الگرامشة أكثر عشائر الهارثة ممارسة للنزعات المسلحة والدكات العشائرية، وهي الأكثر عنفاً من غيرها لحد بعيد، على الرغم من أن تعداد العشيرة لا يتعدى 5 آلاف فرد، ويسكنون في مناطق معينة وهي الكرمة والدير والشخاطة وكتيبان والماجدية ونهران عمر ومنطقة معسكر مجاهدي خلق السابق في الشافي.

المعروف عن قبيلة الگرامشة أنها تنتمي لفئة “المعدان”، وهو ما يتفاخر به أفرادها قِبال “الحضريين”. ويقال إن المعدان معادون للدولة في أصل وجودهم، أي تحديداً هم معادون للقانون، لا يمتثلون له لكونه يجعلهم مثل الحضريين.  

الطابع السائد عند الگرامشة وأغلب العشائر المنتمية للمعدان أن النساء هي من تتكفّل بالإعاشة بينما الرجال هم من يقومون بالحماية، وثنائية الأمن والغذاء أمران تقليديان تتقاتل حولهما العشائر، ويصل الأمر إلى حدود محرجة وهو أن تقوم المرأة بتغطية وجه زوجها بالشال “غطاء رأسها” صباحاً فينهض ليجده ملقى عليه شاعِراً بالعار، حيث تقصد زوجته من ذلك أنه جبان لا يستطيع تأدية دوره بأخذ ثأر قريبه المقتول. 

زمن الثأر اللامتناهي  

بين كثرة العشائر وتوسع نفوذها لا ينتهي ضيم أهالي الكرمة والثأر يتراوح بين قتل وجرح وعدم استقرار أمني. فمثلاً استمرت إحدى المشكلات بين عشيرتي الحلاف والبطاطنة تسع سنوات بنحو متقطع على نوبات، حتى انتهت بفقدان وجرح العشرات. ومن المعروف أن هنالك ما يسمى بـ “الفصل”، وهو دِيّة تقدمها عشيرة القاتل لعشيرة المقتول، وقد تبلغ درجات مرعبة في هذه المناطق، لكن كثيراً ما يتم التغافل عن الفصل، وتنقض عشيرةُ المقتول لقتل أحد أبناء عشيرة القاتل، ثم لا يهدأ الأمر، فتقوم العشيرة التالية بقتل أحد من عشيرة الذي قتل منها، وهكذا تستمر المقاتل. 

إجمالاً يمكن تحديد عاملين لهذه الإدامة، أولهما عدم اللجوء للفصل أو الاحتكام لما هو معروف بـ”الدية” كمبدأ حاسمٍ ملزمٍ وعدم الاكتفاء بقتل شخص من عشيرة القاتل كرد فعلٍ على قتلها لأحد أبنائها. فلقد ذكر منتسب بقوات الأمن وهو من الهارثة رافضاً الكشف عن اسمه، ذكر أن ما يسمّى بگعدات “جلسات” التفاهم تتضمن أمرين، الفصل والتبرؤ من القاتلين، لكن هذا لا يغادر حدود الشيوخ، بينما الشباب لا يلتزمون بذلك وسرعان ما يتم تناسيه والاستمرار بعمليات أخذ الثأر المتبادلة. 

ما يمكن اعتباره عاملاً ثانياً هو أن القاتل ينتمي لعشيرة من بين عدة عشائر تشكل بمجموعها قبيلة واحدة، والثأر لا يستهدف القاتل بشخصه عادة، بل يستهدف شخصاً آخر لا ينتمي حتى لعشيرة القاتل بل لعشيرة أخرى للقبيلة نفسها، وهنا تشعر عشيرة المقتول بالغبن، فتتحرك بدورها لتأخذ ثأرها من القاتل الثاني، فتقتل هي الأخرى شخصاً ما من عشيرة غير عشيرة هذا القاتل، وهكذا تستمر السلسلة المأساوية. 

ذكر المنتسب أيضاً أن تكلفة السلاح بلغت في إحدى المعارك مليار دينار عراقي! ويذكر أن أحد تجار الأسلحة من أحد العشائر قام ببيع أسلحته إلى العشيرة الخصم في معركتها مع عشيرته لمجرد أن عشيرته لم تشترِ السلاح منه! وأما النفوذ العشائري فيصل حد إغلاق بعض المناطق بالكامل، ليس من قِبل الجيش، بل من قِبل عشيرة ما، الگرامشة مثلاً، ويقول إننا كنا سابقاً نعمل في شركات النفط التي يمرّ طريق دخولها من منطقة العشيرة الخصم فنزوّر هوياتنا لكي ننجو من القتل العشوائي على أساس الانتماء.  

العراق: دولة أم عشائر؟ 

الباحث في شؤون العشائر مقداد أبو الهيل وهو ناشط مدني يعمل في معهد “نيسان للوعي الديمقراطي”، وسبق له أن ترشّح للانتخابات النيابية السابقة ولم يحالفه الفوز، يقدم تحليلاً مفاده إن الدولة غير جادةٍ في معالجة مشكلة العشائر، ليس بسبب أن قوّتها لا تضاهي قوّة العشائر، بل لأن نسق الثقافة العشائرية متغلغلٌ في عمق النخب السياسية الحاكمة. فلا تمايز بين الحاكمين (الساسة) وبين غير الحاكمين (المدنيين)، وهو شرط ضروري لإنشاء وتنمية المجتمع المدني. 

ويذهب أبو الهيل في تحليله إلى أن تغلغل الثقافة العشائرية بالحكومة، أدى إلى كون الحكومة المتشكّلة من الأحزاب هي نفسها المنتمية لعشائرها، وبذلك هي من تمنع الدولة من تحدي العشائر. يعني أن الأحزاب الإسلامية الحالية المشكلة للحكومات، والتي لها أجنحة مسلحة خطرة، تهيمن على مفاصل الدولة مما أدى لتعطيل وظيفتها الحقة. ولأن المليشياوية والعشائرية في تاريخهما وجوهرهما ثقافتان وكيانان يعملان ضد الدولة، لذا يلتقيان في النتيجة الأخيرة المتمثلة بإضعاف الدولة بشكل مضاعف بعدما يستفحلان عند أدنى ضعف لها. 

وإذا تدخلت الدولة، فوحده الجيش، وليست الشرطة، من يخوَّل بذلك، وهو لا يتدخّل إلا عندما تتجاوز المعارك حدود المعتاد. وقد يعود ذلك إلى كون منتسبي الجيش يتوزعون بتقسيم جغرافي يختلف تماماً عن التقسيم المعتمد للشرطة، أفراده ليسوا من مناطق القتال التي تقع فيها المعارك العشائرية نفسها. بينما منتسبو الشرطة ينحدرون من مناطقهم المحلية، ما يجعل الشرطة لا تتدخل سواء من باب التواطؤ مع عشيرتها أو الاتقاء من العشيرة الأخرى. فمن جهة، ينتمي الضباط الكبار بالشرطة لعشائر معينة ولا رغبة حقيقية لديهم بمواجهة عشائرهم، ومن جهة أخرى، ينتمي أفراد الشرطة ذوو الدرجات الأدنى إلى عشائر قد يتم استعداؤها من قِبل عشائر أخرى إذا تعرضوا لعقوبة من هذا الشرطي! 

ويشخّص الباحث أبو الهيل لبّ المشكلة على أنها تكمن بالدولة بالدرجة الأساس، وإن ضعف الدولة وذبول هويتها الرئيسية يقابله استقواء العشيرة واستفحال الهويات الفرعية، ويضيف أن القوّة كلما توفّرت بيد المواطنين قِبال تعامي الدولة النسبية بردعهم سيجعل المواطن يذهب إلى أقصى درجات العنف. ويؤكد أبو الهيل أن نزعة الهيمنة تسيطر على المواطنين العشائريين بشكل تلقائي ومتنامٍ، ما دامت الدولة غير مهيمنةٍ عليهم.

نظرة من الداخل 

للشيخ خلف لابد، وهو أحد مشايخ الحلاف، نظرة مختلفة، إذ يرى أن الابتعاد عن جادة الدين هو سبب الاقتتال بين العشائر، علاوة على عدم الالتزام بالأعراف، مشيراً إلى أن هنالك تسع عشائر في البصرة أصيلة (وهي بحسبه الحلاف والعبادة والعيدان والمطور وتميم إلخ)، وبقية العشائر تعتبر دخيلة. من هنا فهو يرى أن أعراف العشائر الدخيلة سادت في البصرة، من قبيل الكوامة العشائرية، التي لم تكن معروفة في البصرة قبل مجيء هذه العشائر بالفترة الأخيرة بحسبه.  

للشيخ اتصالات وثيقة بمرجعية محمد سعيد الحكيم، وهو أحد مراجع الشيعة الكبار، ويقول إنه ذهب إليها كثيراً وناقش معها التفاصيل، ويعتبر أن لديها إمكانيات هائلة بمعرفة أوضاع البصرة قد تفوق حتى معلومات الاستخبارات، ورغم ذلك فالمرجعية مقصرة بحق البصرة. ولطالما تحدث معها بما يجب فعله لكن لا أحد يهتم كما يقول، وهو يرى ضرورة تشكيل لجان من قبل المرجعية تذهب للبصرة كل أسبوعين من أجل القيام بدور إيجابي لمنع ما يحدث بين العشائر. 

فالأمور باتت مأساوية حد أن تحدث معركة بين عشيرتي الحمادنة والبطاطنة بسبب خلاف حول تنصيب “جادر” مخصص لممارسة طقوس العزاء الحسيني، ويخبرنا أن عملية قتل حدثت فيما كانت هناك دبابة عسكرية تبعد عن مكان الحادثة خمسين متراً. 

يعتقد الشيخ خلف أنه يغيب الالتزام بالقانون في الدولة، من رأس الهرم وحتى قاعدتها، وأن الشيوخ “الأصلاء والحقيقيين” هم من يحلون المشاكل. لكن من جانب آخر هنالك شيوخ لا يخرجون لحل المشاكل إلا بإكرامية مالية مُرضية، معتبراً تلك حالة سيئة وتؤكد أن فاعلها ليس شيخاً على وجه الحقيقة، ومن المظاهر السلبية تلك عدم السيطرة على الأتباع والامتناع أو الضعف عن تسليم القاتل مباشرة. 

يتحدث الشيخ بتفصيل عن مشكلة الدولة تجاه العشائر، فهو يتفق مع الفكرة القائلة بأن النعرات العشائرية بدأت تنمو وتتصاعد بعد الانتفاضة الشعبانية عام 1990، وأن الدولة بظل نظامها الجديد لم تسن قانوناً خاصاً بالعشائر بدل الالتجاء إلى قانون العقوبات العامة والتي لا تعالج ظاهرة الاقتتال العشائري بدقة.  

يستمر الشيخ بحديثه إلينا حول حجم ما يحدث، فيقول إن بعض الفصول/الديات بلغت مليارا ونصف المليار دينار، كما أنه ليس مدعاة للاستغراب لو اكتشفنا يوماً أن لدى العشائر سلاحاً كيمياوياً. وهو يصرح بأن أسباب الاقتتال تخص أموراً من قبيل الهواتف النقالة، وتعاطي المخدرات أو المتاجرة بها والتعامل بالربا “الفايز”، وكذلك المقاولات، فبعض العشائر تأخذ حصة من المال تسمى عندنا بـ”الكومشنات”، وبخلاف ذلك ستحدث معارك طاحنة. 

ويختم حديثه بأن الدولة غير جادة بمعالجة ما نعانيه على يد تلك العشائر غير الأصيلة، لكون الحكم بالبصرة بيد عشائر معدودة، وليس من قبل أهل البصرة، ولذلك عندما تخرج الدولة على عشيرة معينة من أجل التفتيش عن الأسلحة، يقوم المسؤولون بالاتصال بها وتحذيرها مقدماً، وعندما يصلون يختفي السلاح طبعاً. 

بنية لا تصلح من ذاتها 

بالعودة لأبي الهيل، فهو يقول إن المشكلة تبدأ بالدولة لا بالعشيرة، فالثانية ليست سبب ضعف الأولى، بل نتيجة لضعفها، ومن يضعِفها هي الأحزاب بالدرجة الأساس، إذ أن الأحزاب حامية للعشائر التي تعدها الضامن لأصوات تؤهلها للفوز بالانتخابات، وهكذا الأمر هو تبادل بالمنفعة. فالكثير من قادة الكتل السياسية والمناصب التنفيذية الرفيعة، بحسب أبي الهيل، قد يكونون صادقين في أمنياتهم بالإصلاح، لكنهم غير قادرين عليه من حيث إن وسيلة إصلاح الفساد فاسدةٌ هي بالذات، وإذا كان عليهم تطبيق الإصلاح الحق فعليهم البدء بأنفسهم وأتباعهم وهذا يعني تقويض وجودهم ذاته وهو أمر متعذّر بطبيعة الحال. لذا تكثر الدعوات لحلِّ المليشيات لكن لا أحد من الداعين يفعل ذلك قبل غيره، فقدانه القوّة يعني فقدانه وجوده. إذن، بظل المعادلة الحالية التي تعكس معضلة وجودية لا أفق لحل مشكلة العشائر. 

ويذكر أبو الهيل أن المجتمع العراقي، وبنحوٍ أخصّ مجتمع “الكرمة”، لم يكن يتقاتل عشائرياً قبل التسعينيات، رغم وقوع الكثير من الخصومات والمشاحنات بين أفراد عشائر مختلفةٍ، فلا يتطوّر الأمر لمعارك عشائريةٍ. أما منذ التسعينيات، فقد شاعت قيمٌ مغايرةٌ بين العشائر قوامها احتقار الالتجاء للدولة واعتباره عاراً، بل وقامت بابتكار سردياتٍ مغزاها الحنين لماضٍ عشائري غيرِ موجود أصلاً، فيتم استذكار الإيجابيات وتضخميها على حساب السلبيات المطمورة، وهو ما تعبّر عنه مقولة “لولا العشيرة لأصبحنا بخبر كان”. معنى هذا القول إن العشيرة ضروريةٌ لحماية الفرد من تغوّل العشائر الأخرى، أو بعبارة أخرى، لا بدّ من العشيرة لحلحلة المشاكل التي لا تقوى على حلّها الدولة. لكن الناس تنسى أن المشاكل التي تستدعي العشائر لحلحلتها أساسها العشائر نفسها!