لا نهائية البصاق في مجتمع العراق وسياسته: "حتى يظهر الخير كله"
06 تشرين الأول 2022
البصاق قد يكون فعل احتجاجي يقيس المسافة التي تفصل السلطات السياسية عن المجتمع، ويمكنه أن يكون مؤشراً واضحاً على ظمأ المجتمع المستمر للماورائيات..
إذا ما نُظر إلى البصاق عبر سياقه التاريخي والاجتماعي في العراق، فهو ليس مجرد لعاب يخرج من الفم، وإنما فعلٌ احتجاجي يقيس المسافة التي تفصل السلطات السياسية عن المجتمع. وهو أيضاً مؤشر واضح على ظمأ المجتمع المستمر للماورائيات رغم تطور العلم، كما أنه علامة واضحة لظهور “المهدي المنتظر”، وفق ما يؤمن بذلك المعتقدون به.
بصاق سياسي
الحكايات السائدة عن تعرض سياسيي العصر الملكي (1921-1958) للنقد والاحتجاج من قبل مواطنين، وجهاً لوجه، بالنقد والسباب وحتى الضرب والبصاق كثيرة. ويحصد “ثعلب السياسة” العراقية، نوري السعيد نصيبه الأكبر منها، لا سيما وأنه تبوأ منصب رئاسة الوزراء 14 مرة قبل أن يلقى حتفه في انقلاب 14 تموز 1958.
ومن بين هذه الحكايات، إن السعيد كان جالساً مع سائقه في إحدى المقاهي حينما انتبه إليه شقي مخمور قدم إليه وسأله: “أنت نوري السعيد”، فأجاب الأخير: “لا متوهم”، اعتذر الشقي وانصرف، ثم عاد غاضباً: “لا لا أنت نوري السعيد القندرة”، ونظر إلى سائقه قائلاً: “وأنت صالح جبر قيطانه”، ثم بصق بوجههما، أعطاه السعيد مالاً، وعفا عنه “كي لا يصنع منه بطلاً”.
هذه الحكاية، وغيرها من المواقف الكثيرة التي تعرض لها سياسيو تلك الحقبة تحديداً، تقيس بوضوح المسافة بين مجتمع المدن وقادة السلطة، والتي ما فتئت تتوسع تدريجياً إبان العهد الجمهوري، إذ تبقى أطياف حكايات مماثلة تُروى عن “الزعيم”، عبد الكريم قاسم، الذي تبوأ الحكم بين 1958 و1963، ثم تنقرض تماماً مع سطوة حزب البعث على الحكم.
الرعب الذي بثه نظام صدام حسين الذي تولى رئاسة العراق بين 1979 و2003، انعكس بصورة مباشرة على هذه الصيغة الاحتجاجية على السلطة. فعقب 2003، شاعت حكاية في مناطق عراقية شتى، أنهم كانوا يبصقون على الشاشة التي تبث صورة صدام دائمة الظهور وقتها، ثم يمسحون البصاق بحجة تنظيف الشاشة. هذه الحكاية تدل بوضوح على حجم الرعب من النظام وانعدام الثقة داخل المنزل حتى، والخطر المحدق في حال تسرب الفعل.

بعد سقوط نظام صدام حسين في 9نيسان 2003، أطل رجال نظام البعث عبر شاشة توثق محاكمتهم. كان الانقسام واضحاً في صفوف النظام الصلب، وتجلى باتهام طارق عزيز، السياسي المقرب من صدام حسين، بالخيانة. تحدثت أخبار وقتها عن تعرض عزيز للبصاق من قبل صدام، في أول لقاء لهما بعد اعتقالهما. أما وطبان التكريتي، الأخ غير الشقيق لصدام، فظهر أمام الملايين وبصق بوجه طارق عزيز، والأخير ردها إليه في الموضع ذاته، كان البصاق علامة بارزة في المحكمة التي بُثت في الإعلام.
فوضى أخرى في الشارع ستستمر طوال السنوات اللاحقة، تخمد قليلاً وتندلع فجأة، حيث يظهر مواطنون ساخطون أمام عدسات الإعلام يشتمون ويبصقون على سياسيين يتحاشون تسميتهم. الأمور لا تتوقف عند هذا الحد، إذ يظهر محللون على شاشات التلفاز يمارسون اختلافهم في وجهات النظر، تنتهي الكثير من هذه المقابلات -على اختلاف دوافعها- بالشتائم والبصاق.
تبقى بصقة البرلمانيين، والسياسيين هي الأكثر تميزاً وانسجاماً مع فوضى النظام الديمقراطي في العراق، ومن بينها بصقة النائب عن الحزب الديمقراطي طارق صديق على الإعلامي أحمد ملا طلال عبر اتصال هاتفي خلال لقاء متلفز بعد استفتاء انفصال إقليم كردستان عام 2017. والأكثر شهرة حينما قال النائب عن كتلة صادقون (الجناح السياسي لحركة عصائب أهل الحق) عدي عواد، إنه “يفترض بكل عراقي أن يتفل بوجه رئيس الجمهورية برهم صالح”، وذلك بعد أزمة استقالة عادل عبد المهدي من الحكومة وترشيح بديل له خلال 2020.
الحكم القانوني والعشائري للبصاق
تُعامل البصقة الموجهة إلى شخص ما، قانونياً، وفق تفسير المادة 415 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل، وتسمى بـ”الايذاء الخفيف”. ويعاقب عليها بالحبس لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر، أو غرامة تتراوح بين50 ألف دينار إلى 200 ألف، وفقا لظروف الحادثة، كما أنها تقبل الكفالة. ولا يختلف هذا الحكم فيما إذا كان على مواطن أو سياسي، ولكن العقوبة تتشدد إذا حصل الاعتداء داخل محكمة، أو على موظف خلال الواجب.
عشائرياً، تُعامل البصقة معاملة الإهانة. ووفقاً للأعراف العشائرية، تأخذ عشيرة المبصوق عليه ما يُسمى بـ”الحَشَم”، إذ تحضر عشيرة الباصق وتبدأ بإجراءات رد الاعتبار والمساومة على مبلغ “الحشم”، ثم تتنازل عشيرة الأول ويكون في رصيدها موقف ينتظر رد الاعتبار من العشيرة المقابلة في حال حدث خلاف مستقبلي.

بعد العام 2003 شاعت حالة تُعتبر هجينة في الأوساط العشائرية القديمة، وغير محببة في الأوساط الاجتماعية، إذ إن الإهانة المعنوية لا تُقدر بثمن لذلك يتم التنازل عنها، والحالة هي أن يأخذ المبصوق عليه غرامة مالية تُحدد وفقا لظروف جلسة المساومة، ولا يكون لعشيرته الاعتبار ذاته كما في الحالة السابقة.
بصاق للتبرك
في المجتمع الجنوبي الذي تقطنه غالبية شيعية، تنتشر بين فترة وأخرى حكايات عن أشخاص يتمتعون بكرامات، يُعتقد أن الله وهبهم إياها، فتشفي من سقم وتحل العقد وتقضي الحاجات، وغالباً ما يكون هؤلاء الأشخاص من السادة، أي الذين يرجع نسبهم إلى الرسول محمد.
ظاهرة التداوي ببصاق السادة من أمراض عضال، لم تبرز فقط بعد 2003، إنما لها حضور يسبق ذلك بكثير على شاكلة حكايات تظهر هنا وهناك ثم تنطفئ، عن أفراد من مختلف بقاع العراق يلجؤون إلى مكان السيد والذي عادة يكون في مناطق نائية، يتبركون ببصاقه ليبرأ مريضهم أو تُحَل عقدهم.
وهذا الاعتقاد ببركة بصاق السيد، لم يتولد عند المعتقدين بذلك من فراغ، بل يولده خطباء منابر ورجال دين وروايات منقولة في التراث الشيعي. يروي محمد رضا الشيرازي، رجل الدين البارز (توفي 2008) في إحدى الخطب، قائلاً “إن الشيخ زين العابدي المازندراني كان في أحد الأيام متوجهاً لزيارة حرم الحسين في كربلاء، جاءه سيد (من ذرية النبي) فقير وطلب مالاً، فاعتذر الشيخ إليه قائلاً إنه لا يحمل المال الآن وسيعطيه عند العودة إلى البيت، بعد الانتهاء من الزيارة. غضب السيد الفقير، وتفل في وجه الشيخ، وحينما أراد مرافقي الشيخ تأديبه، نهاهم الشيخ قائلا: “إنني آمن ألا تلفح وجهي النار يوم القيامة، ببركة بصاق واحد من ذرية رسول الله، ثم مسح البصاق من وجهه”.
وفي الموروث الشيعي، يورد العلامة المجلسي (1627 – 1699 م)، أحد أبرز علماء الشيعة، خبراً في كتابه “مرآة العقول“، جاء فيها نقلاً عن “علي بن مهزيار قال: رأيت أبا جعفر الثاني عليه السلام يتفل في المسجد الحرام فيما بين الركن اليماني والحجر الأسود ولم يدفنه”. ويعلق المجلسي على هذا قائلا: “قوله: “يتفل” لأنه كان بصاقه شرفاً للمسجد فلا يقاس، أو كان فعله لبيان الجواز”.
أما الروايات عن كرامات بصاق الرسول محمد، في كتب السنة والشيعة، فكثيرة، فقد كان الصحابة يأخذون بصاق الرسول ونخامته ونخاعته ويدلكون بها أجسامهم. يصّر أهل السنة على أن الرسول لا يقاس به أحد، والتبرك بالعلماء والعباد غير جائز، ودليلهم على ذلك كرامة الرسول فحينما بصق في بئر قليلة المياه أصبحت غزيرة، وحينما قلد ذلك مسيلمة الكذاب، بصق ببئر عذبة فصارت مرة ومالحة، بحسب الروايات المشهورة. خلافاً للشيعة الذين لا يتحفظون على التبرك بذرية الرسول الصالحين، لا سيما الأئمة الاثني عشر، والتبرك برجال الدين أيضاً.
المفاضلة على الصحابة
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالبصاق يندرج ضمن خانة أكثر خصوصية لدى الشيعة الذين يرون في روايات تتضمنه، مفاضلة النبي محمد للإمام علي على غيره من الصحابة، من بينها ما أورده المجلسي في كتابه “بحار الأنوار“: “رأى أبو طالب، النبي يتفل في فيّ علي، فقال: ما هذا يا محمد؟ قال: إيمان وحكمة، فقال أبو طالب لعلي: يا بني انصر ابن عمك وآزره”. والرواية الثاني التي أوردها أحمد بن حنبل، رابع الأئمة الأربعة عند أهل السنة في مسنده، حينما سلم الرسول محمد الراية إلى رجلٍ “يحبه الله ورسوله”، ودعا علي بن أبي طالب الذي كان حينها أرمدَ العين، “فبصق في عينه، ودفع الراية إليه”، في واقعة خيبر الشهيرة، وقول علي: “ما رمدت مذ تفل النبي في عيني”.
وفي سياق ذي صلة، يهتم الشيعة برواية يرون أنها من مناقب علي بن أبي طالب، وفيها إن علياً حينما نازل عمرو بن ود العامري في واقعة الخندق، وصرعه أرضا، بصق الأخير في وجه علي الذي تمهل قليلا، قبل أن يجهز عليه “لئلا يكون في عمله ذرة من غضب”.
علامة للظهور
ليس هذا وحسب، فالشيعة يؤمنون بالمهدي المنتظر، وهو آخر الأئمة الاثني عشر، الذي يظهر ليملأ الأرض قسطا وعدلا، بعد أن مُلئَت ظلما وجورا، وفي تراثهم الكثير من الأحاديث التي تستدل على وجوده، والظروف التي تهيئ لظهوره، ومن بينها حديث يُنقل عن الحسين بن علي (الإمام الثالث للشيعة): “لا يكون هذا الأمر الذي تنتظرون حتى يبرأ بعْضكم من بعضٍ ويلعن بعضكم بعضا ويتفل بعضكم في وجه بعْض وحتى يشهد بعضكم بالكفر على بعْض قلت ما في ذلك خير قَالَ: الْخَيْرُ كلهُ في ذلك عند ذلك يقوم قائمنا فيرْفع ذلكَ كله”. وبذلك فإن من علامات الظهور هو اختلاف الشيعة في ما بينهم حد التفال على بعضهم بعضا!
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
إذا ما نُظر إلى البصاق عبر سياقه التاريخي والاجتماعي في العراق، فهو ليس مجرد لعاب يخرج من الفم، وإنما فعلٌ احتجاجي يقيس المسافة التي تفصل السلطات السياسية عن المجتمع. وهو أيضاً مؤشر واضح على ظمأ المجتمع المستمر للماورائيات رغم تطور العلم، كما أنه علامة واضحة لظهور “المهدي المنتظر”، وفق ما يؤمن بذلك المعتقدون به.
بصاق سياسي
الحكايات السائدة عن تعرض سياسيي العصر الملكي (1921-1958) للنقد والاحتجاج من قبل مواطنين، وجهاً لوجه، بالنقد والسباب وحتى الضرب والبصاق كثيرة. ويحصد “ثعلب السياسة” العراقية، نوري السعيد نصيبه الأكبر منها، لا سيما وأنه تبوأ منصب رئاسة الوزراء 14 مرة قبل أن يلقى حتفه في انقلاب 14 تموز 1958.
ومن بين هذه الحكايات، إن السعيد كان جالساً مع سائقه في إحدى المقاهي حينما انتبه إليه شقي مخمور قدم إليه وسأله: “أنت نوري السعيد”، فأجاب الأخير: “لا متوهم”، اعتذر الشقي وانصرف، ثم عاد غاضباً: “لا لا أنت نوري السعيد القندرة”، ونظر إلى سائقه قائلاً: “وأنت صالح جبر قيطانه”، ثم بصق بوجههما، أعطاه السعيد مالاً، وعفا عنه “كي لا يصنع منه بطلاً”.
هذه الحكاية، وغيرها من المواقف الكثيرة التي تعرض لها سياسيو تلك الحقبة تحديداً، تقيس بوضوح المسافة بين مجتمع المدن وقادة السلطة، والتي ما فتئت تتوسع تدريجياً إبان العهد الجمهوري، إذ تبقى أطياف حكايات مماثلة تُروى عن “الزعيم”، عبد الكريم قاسم، الذي تبوأ الحكم بين 1958 و1963، ثم تنقرض تماماً مع سطوة حزب البعث على الحكم.
الرعب الذي بثه نظام صدام حسين الذي تولى رئاسة العراق بين 1979 و2003، انعكس بصورة مباشرة على هذه الصيغة الاحتجاجية على السلطة. فعقب 2003، شاعت حكاية في مناطق عراقية شتى، أنهم كانوا يبصقون على الشاشة التي تبث صورة صدام دائمة الظهور وقتها، ثم يمسحون البصاق بحجة تنظيف الشاشة. هذه الحكاية تدل بوضوح على حجم الرعب من النظام وانعدام الثقة داخل المنزل حتى، والخطر المحدق في حال تسرب الفعل.

بعد سقوط نظام صدام حسين في 9نيسان 2003، أطل رجال نظام البعث عبر شاشة توثق محاكمتهم. كان الانقسام واضحاً في صفوف النظام الصلب، وتجلى باتهام طارق عزيز، السياسي المقرب من صدام حسين، بالخيانة. تحدثت أخبار وقتها عن تعرض عزيز للبصاق من قبل صدام، في أول لقاء لهما بعد اعتقالهما. أما وطبان التكريتي، الأخ غير الشقيق لصدام، فظهر أمام الملايين وبصق بوجه طارق عزيز، والأخير ردها إليه في الموضع ذاته، كان البصاق علامة بارزة في المحكمة التي بُثت في الإعلام.
فوضى أخرى في الشارع ستستمر طوال السنوات اللاحقة، تخمد قليلاً وتندلع فجأة، حيث يظهر مواطنون ساخطون أمام عدسات الإعلام يشتمون ويبصقون على سياسيين يتحاشون تسميتهم. الأمور لا تتوقف عند هذا الحد، إذ يظهر محللون على شاشات التلفاز يمارسون اختلافهم في وجهات النظر، تنتهي الكثير من هذه المقابلات -على اختلاف دوافعها- بالشتائم والبصاق.
تبقى بصقة البرلمانيين، والسياسيين هي الأكثر تميزاً وانسجاماً مع فوضى النظام الديمقراطي في العراق، ومن بينها بصقة النائب عن الحزب الديمقراطي طارق صديق على الإعلامي أحمد ملا طلال عبر اتصال هاتفي خلال لقاء متلفز بعد استفتاء انفصال إقليم كردستان عام 2017. والأكثر شهرة حينما قال النائب عن كتلة صادقون (الجناح السياسي لحركة عصائب أهل الحق) عدي عواد، إنه “يفترض بكل عراقي أن يتفل بوجه رئيس الجمهورية برهم صالح”، وذلك بعد أزمة استقالة عادل عبد المهدي من الحكومة وترشيح بديل له خلال 2020.
الحكم القانوني والعشائري للبصاق
تُعامل البصقة الموجهة إلى شخص ما، قانونياً، وفق تفسير المادة 415 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل، وتسمى بـ”الايذاء الخفيف”. ويعاقب عليها بالحبس لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر، أو غرامة تتراوح بين50 ألف دينار إلى 200 ألف، وفقا لظروف الحادثة، كما أنها تقبل الكفالة. ولا يختلف هذا الحكم فيما إذا كان على مواطن أو سياسي، ولكن العقوبة تتشدد إذا حصل الاعتداء داخل محكمة، أو على موظف خلال الواجب.
عشائرياً، تُعامل البصقة معاملة الإهانة. ووفقاً للأعراف العشائرية، تأخذ عشيرة المبصوق عليه ما يُسمى بـ”الحَشَم”، إذ تحضر عشيرة الباصق وتبدأ بإجراءات رد الاعتبار والمساومة على مبلغ “الحشم”، ثم تتنازل عشيرة الأول ويكون في رصيدها موقف ينتظر رد الاعتبار من العشيرة المقابلة في حال حدث خلاف مستقبلي.

بعد العام 2003 شاعت حالة تُعتبر هجينة في الأوساط العشائرية القديمة، وغير محببة في الأوساط الاجتماعية، إذ إن الإهانة المعنوية لا تُقدر بثمن لذلك يتم التنازل عنها، والحالة هي أن يأخذ المبصوق عليه غرامة مالية تُحدد وفقا لظروف جلسة المساومة، ولا يكون لعشيرته الاعتبار ذاته كما في الحالة السابقة.
بصاق للتبرك
في المجتمع الجنوبي الذي تقطنه غالبية شيعية، تنتشر بين فترة وأخرى حكايات عن أشخاص يتمتعون بكرامات، يُعتقد أن الله وهبهم إياها، فتشفي من سقم وتحل العقد وتقضي الحاجات، وغالباً ما يكون هؤلاء الأشخاص من السادة، أي الذين يرجع نسبهم إلى الرسول محمد.
ظاهرة التداوي ببصاق السادة من أمراض عضال، لم تبرز فقط بعد 2003، إنما لها حضور يسبق ذلك بكثير على شاكلة حكايات تظهر هنا وهناك ثم تنطفئ، عن أفراد من مختلف بقاع العراق يلجؤون إلى مكان السيد والذي عادة يكون في مناطق نائية، يتبركون ببصاقه ليبرأ مريضهم أو تُحَل عقدهم.
وهذا الاعتقاد ببركة بصاق السيد، لم يتولد عند المعتقدين بذلك من فراغ، بل يولده خطباء منابر ورجال دين وروايات منقولة في التراث الشيعي. يروي محمد رضا الشيرازي، رجل الدين البارز (توفي 2008) في إحدى الخطب، قائلاً “إن الشيخ زين العابدي المازندراني كان في أحد الأيام متوجهاً لزيارة حرم الحسين في كربلاء، جاءه سيد (من ذرية النبي) فقير وطلب مالاً، فاعتذر الشيخ إليه قائلاً إنه لا يحمل المال الآن وسيعطيه عند العودة إلى البيت، بعد الانتهاء من الزيارة. غضب السيد الفقير، وتفل في وجه الشيخ، وحينما أراد مرافقي الشيخ تأديبه، نهاهم الشيخ قائلا: “إنني آمن ألا تلفح وجهي النار يوم القيامة، ببركة بصاق واحد من ذرية رسول الله، ثم مسح البصاق من وجهه”.
وفي الموروث الشيعي، يورد العلامة المجلسي (1627 – 1699 م)، أحد أبرز علماء الشيعة، خبراً في كتابه “مرآة العقول“، جاء فيها نقلاً عن “علي بن مهزيار قال: رأيت أبا جعفر الثاني عليه السلام يتفل في المسجد الحرام فيما بين الركن اليماني والحجر الأسود ولم يدفنه”. ويعلق المجلسي على هذا قائلا: “قوله: “يتفل” لأنه كان بصاقه شرفاً للمسجد فلا يقاس، أو كان فعله لبيان الجواز”.
أما الروايات عن كرامات بصاق الرسول محمد، في كتب السنة والشيعة، فكثيرة، فقد كان الصحابة يأخذون بصاق الرسول ونخامته ونخاعته ويدلكون بها أجسامهم. يصّر أهل السنة على أن الرسول لا يقاس به أحد، والتبرك بالعلماء والعباد غير جائز، ودليلهم على ذلك كرامة الرسول فحينما بصق في بئر قليلة المياه أصبحت غزيرة، وحينما قلد ذلك مسيلمة الكذاب، بصق ببئر عذبة فصارت مرة ومالحة، بحسب الروايات المشهورة. خلافاً للشيعة الذين لا يتحفظون على التبرك بذرية الرسول الصالحين، لا سيما الأئمة الاثني عشر، والتبرك برجال الدين أيضاً.
المفاضلة على الصحابة
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالبصاق يندرج ضمن خانة أكثر خصوصية لدى الشيعة الذين يرون في روايات تتضمنه، مفاضلة النبي محمد للإمام علي على غيره من الصحابة، من بينها ما أورده المجلسي في كتابه “بحار الأنوار“: “رأى أبو طالب، النبي يتفل في فيّ علي، فقال: ما هذا يا محمد؟ قال: إيمان وحكمة، فقال أبو طالب لعلي: يا بني انصر ابن عمك وآزره”. والرواية الثاني التي أوردها أحمد بن حنبل، رابع الأئمة الأربعة عند أهل السنة في مسنده، حينما سلم الرسول محمد الراية إلى رجلٍ “يحبه الله ورسوله”، ودعا علي بن أبي طالب الذي كان حينها أرمدَ العين، “فبصق في عينه، ودفع الراية إليه”، في واقعة خيبر الشهيرة، وقول علي: “ما رمدت مذ تفل النبي في عيني”.
وفي سياق ذي صلة، يهتم الشيعة برواية يرون أنها من مناقب علي بن أبي طالب، وفيها إن علياً حينما نازل عمرو بن ود العامري في واقعة الخندق، وصرعه أرضا، بصق الأخير في وجه علي الذي تمهل قليلا، قبل أن يجهز عليه “لئلا يكون في عمله ذرة من غضب”.
علامة للظهور
ليس هذا وحسب، فالشيعة يؤمنون بالمهدي المنتظر، وهو آخر الأئمة الاثني عشر، الذي يظهر ليملأ الأرض قسطا وعدلا، بعد أن مُلئَت ظلما وجورا، وفي تراثهم الكثير من الأحاديث التي تستدل على وجوده، والظروف التي تهيئ لظهوره، ومن بينها حديث يُنقل عن الحسين بن علي (الإمام الثالث للشيعة): “لا يكون هذا الأمر الذي تنتظرون حتى يبرأ بعْضكم من بعضٍ ويلعن بعضكم بعضا ويتفل بعضكم في وجه بعْض وحتى يشهد بعضكم بالكفر على بعْض قلت ما في ذلك خير قَالَ: الْخَيْرُ كلهُ في ذلك عند ذلك يقوم قائمنا فيرْفع ذلكَ كله”. وبذلك فإن من علامات الظهور هو اختلاف الشيعة في ما بينهم حد التفال على بعضهم بعضا!