التيار VS الإطار: جغرافيا وسلاح و"مصاريف" و"ذبائح" للسيطرة على الشارع

حسن الناصري

01 تشرين الأول 2022

بين 29 تموز وحتى 30 آب، خاضت القوى السياسية الشيعية نزالات عديدة للسيطرة على الشارع والسياسة والقرار، ولم تتوان عن استخدام الأسلحة المتوسطة، والتسبّب بالدماء، وإثارة الرعب في مناطق العاصمة. لكن ما الكلفة؟ وكيف جرت التحركات؟ وهل من رابح أو خاسر في النزال المرجح تكراره؟

انحبست الأنفاس يوم 30 آب عندما شهدت بغداد حرباً بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة داخل المنطقة الخضراء المُحصنّة بين الأطراف الشيعية المتخاصمة. 

وقف سكّان العاصمة طوابير أمام الأفران ومحال بيع المواد الغذائية، وأخذ الكثير منهم يفكّر بالمستقبل القاتم الذي ينتظرهم.

وصف قيس الخزعلي، الأمين العام لـ”عصائب أهل الحق”، إحدى أشرس الفصائل الشيعية المسلحة في العراق، ليلة وصباح 30 آب الماضي بأنها كانت “أسوأ ليلة (..) منذ 2003”. 

على مدى ساعات، تطاير الرصاص وصواريخ آر بي جي (القذائف الصاروخية الدفع) فوق المنطقة الخضراء وداخلها.

فبعد إخراج قوات عسكرية موالية لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر من القصر الحكومي الذي اقتحمه أنصاره يوم 29 آب إثر اعتزال زعيمهم السياسة، قدِم مسلحون مساندون لهم فاندلعت معركة سقط خلالها عشرات القتلى والجرحى، في مواجهات بين القوات المحسوبة على الكتلة الصدرية وتلك المحسوبة على الإطار. 

جاء اعتزال الصدر بعد ساعات من إعلان مرجعه الفقهي كاظم الحائري اعتزاله المرجعية هو الآخر، ودعوة أتباعه إلى تقليد المرشد الإيراني علي خامنئي، بوصفه أحد مراجع التقليد الشيعة. 

لم يكن التوقيت بريئاً بنظر الصدريين، فهو قد جاء في ذروة نشاطهم السياسي المضاد للأحزاب الشيعية الموالية لإيران، وارتابوا في أمر الحائري، حتى قال بعضهم إنه قيد الإقامة الجبرية في قم.

على الرغم من انقضاء المحنة بوقت قصير نسبياً، ولكن بكلفة أرواح باهظة (30 قتيلا خلال نحو 24 ساعة، وذلك بعدما أمر الصدر مريديه بالانسحاب من الخضراء خلال ستين دقيقة، إلا أن أمراً ما قد بات جلياً: لم تعد الخضراء ومؤسساتها ورمزيتها التي اتخذتها منذ 2003 بمعزل -فعلي- عن الاضطرابات المستمرة في السياسة العراقية. 

كيف بدأت الحكاية؟

منذ أواخر تموز الماضي، كان العراقيون، وسكان العاصمة بغداد بالذات، يحاولون ممارسة حياتهم اليومية بشكل طبيعي. إلا أن الخوف كان بادياً على وجوه الكسبة، ومن حركة السيارات المتوترة كان يمكن التعرف على ما يعتري الناس؛ علماً أن كثرين كانوا ممن لم يأبهوا أو يعبأوا بما يجري بعد نحو عقدين من المشكلات الأمنية والسياسية حتى أضحى الاضطراب جزءاً من الحياة العراقية العامة.

كانت عيون وآذان الملايين من العراقيين موجهة لما يجري في المنطقة الخضراء، وذلك مع تصاعد الاحتدام الدائر في البرلمان وخارجه بين أحزاب الكتلة الصدرية و”الإطار التنسيقي”، وكبحهما لإمكانية تشكيل حكومة منذ الانتخابات التي جرت في تشرين الأول 2021. كانت الاحتمالات كلها مفتوحة على الاحتراب والانفلات الأمني ولا أحد كان بوسعه استشراف مآل الأمور.  

وبالفعل، حدث ما خشيه كثيرون. ففي 15 تموز 2022 قرر مقتدى الصدر، الزعيم الشيعي الأعلى كعباً في عالم السياسة وذو النفوذ الاجتماعي الهائل، غلق البرلمان بحشود من أنصاره ليمنع غرماءه في “الإطار التنسيقي”، الذي يضم قوى شيعية خسرت الانتخابات ثم ما لبثت أن انتعشت مقاعدها النيابية بعد استقالة الكتلة الصدرية (73 نائباً) في حزيران الماضي، من تشكيل حكومة جديدة. 

أراد الصدر توليف ما أسماه “حكومة أغلبية وطنية” بجانب الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة السني، بيد أن بقية القوى الشيعية خشيت من “سطوته” المحتملة وأفكاره عنهم وعن “فصائل المقاومة” والحشد الشعبي.

وقد نجحوا بإيقاف مشروعه.

لم تكن يوماً المنطقة الخضراء الحصينة بمثل الحال التي صارت عليها في تلك الأيام، فآلاف البشر من مختلف الأعمار، وبينهم نساء طاعنات في السن، افترشوا الأرض أمام مبنى البرلمان وُجلبت قطعان من الماشية لتأمين الغذاء لهم، يحرسهم نحو 500 من مقاتلي الصدر، لكن بلا سلاح ظاهر. 

همهمة وضجيج دائم وحركة محمومة وسط أجواء حارة جداً. الغالبية منهم يرقبون هواتفهم باستمرار، فلا واسطة بينهم وبين زعيمهم سوى حسابه على تويتر وحساب “وزير القائد – صالح محمد العراقي” (النائب عن الكتلة الصدرية المستقيل)، ولجنة تشكلت لتولي تنظيم الاعتصام.  

ولتزامن الاعتصام مع شهر محرم، بُعثت أصوات القصائد الحسينية والصدرية وانتشرت الصور المتخيّلة للحسين بن علي بن أبي طالب جنباً إلى جنب مع صور مقتدى الصدر ووالده المرجع الديني محمد محمد صادق، الذي اغتيل في التسعينيات.

استمر اعتصام الصدريين في البرلمان، معطلين جلساته، من يوم 15 تموز إلى 8 آب، حينما أمر الصدر أتباعه بالانسحاب. بيد أن جلسات البرلمان ما تزال معطلة مذاك، تخوفاً من استيلاء الصدريين على البرلمان مرة أخرى؛ علماً بأن العراق ما تزال تقوده حكومة تصريف أعمال ولم تصل الأزمة السياسية إلى أي مخرج. 

إلى جانب معانيه السياسة، فقد كان لتكسير الحواجز التي أقيمت بين العراقيين وبين الخضراء وعوالمها، أثر اجتماعي وسياسي امتد إلى أبعد من هؤلاء المعتصمين في داخلها. 

اعتصامات كلفت مليارات!

 في الساعات الأولى لاقتحام المنطقة الخضراء وبدء الاعتصام، كان العدد يقارب 17 ألف شخص، ثم قلّ بعد التوجيه بانسحاب القادمين من خارج بغداد وعودتهم إلى منازلهم، وقُدِّر عدد من يقضون ليلتهم في محيط مبنى البرلمان بنحو ألفي معتصم.

قدِم أغلب المعتصمين من مدن بعيدة ومناطق بغداد الفقيرة تلبية لنداء الصدر. وشعر كثيرون منهم في البداية بالجوع، فلا حوانيت أو سوبر ماركت هناك، وحتى إن وجدت فالأسعار غالية والمساحة التي يمكنهم التحرك فيها محدودة. تدافع هؤلاء فيما بينهم للحصول على الطعام الذي كان يرسل بكميات قليلة إليهم في الأيام الأولى. 

رغم صرامة قيادة التيار الصدري ومركزيتها الشديدة، لم يكن بالإمكان السيطرة التامة على الجموع الكبيرة. 

لكن شيئاً فشيئا، بدأ التنظيم يظهر وعربات الغذاء والمياه الكبيرة تدخل بواسطة قوات “سرايا السلام” التابعة لمقتدى الصدر وقد ارتدى عناصرها ملابس مدنية، أو شبه عسكرية إحدى قطعها سوداء، وقد لوحظ أن علب المياه كان مصدرها معمل “مياه تعبئة الأكرمين” التابع لـ”سرايا السلام”. 

كما قدُمت الفواكه المثلّجة وبعض صنوف الطعام الفاخر والمرق باللحم والأكلات السريعة، ونُصبت 250 مبردة هواء للتخفيف من حرارة الجو. 

كما توزع مبيت المعتصمين على أكثر من 250 سرداق من الذين كانوا يقدمون الطعام والشراب إلى جانب خدمات المبيت. 

أما عن تمويل شراء هذه الحاجيات، فقد تعددت مصادره. سُحبت أموال من صناديق “البنيان المرصوص”، المشروع الاجتماعي التكافلي الذي أسسه الصدر في شباط 2021 لمساعدة أتباعه مالياً. كما قدّم نواب “الكتلة الصدرية” المستقيلون وتجار موالون وشيوخ عشائر بعض الدعم. 

كما أن بعض القبائل مثل “الشويلات” و”بني لام” و”بيت سفيح” و”مياح” و”البودراج” وغيرها، لم تأتِ بأفرادها وشيوخها فقط، بل جلبت معها مواكب خدمية لتقدم الطعام والمياه والشاي والعصير والقهوة العربية للمعتصمين. 

أما مشكلة النقل فسرعان ما حُلّت بتنظيم خط للباصات الصغيرة وعربات “التك تك”. 

بالحديث مع مسؤولين في التيار الصدري، يمكن تقدير ما صُرف على الاعتصام حتى 8 آب، أي نحو ربع مدة الاعتصام، بنحو أربع مليارات دينار عراقي، (ما يعادل نحو 2,8 مليون دولار).

وفي البداية نام المعتصمون داخل البرلمان، منعمين بمكيفات الهواء وحماماته ومقاعده الفاخرة، فيما راجت صور شبان يمرحون ويصورون مقاطع ساخرة وينشروها على مواقع التواصل الاجتماعي، من بينها مقطع يظهر مرآة داخل حمامات البرلمان يعمل الضوء المحيط بها بمجرد اللمس عليها.

وعندما دعا الصدر أنصاره، في 2 آب، لغلق المبنى والاعتصام خارجه، مدفوعاً ربما بضغط الانتقادات حول “إهانة” المؤسسة التشريعية، ظهر التأفف الصامت بين الجموع وسببه حرارة الشمس الحارقة وسرت بينهم حالة من الاضطراب. 

عوّل المناوئون على هذا التصرف، وتوقعوا أن يتعب الصدريون ويخف زخمهم عندما تلسعهم الشمس وتطول بهم أيام الاعتصام. بيد أن القيادة الصدرية سرعان ما تنبّهت إلى ذلك، ووضّحت أن الإغلاق يقتصر على قاعة الجلسات دون بقية أروقة المبنى. 

ولم يقتصر الاندهاش على المعتصمين أنفسهم من دواخل البرلمان وما يحويه، بل كان من نصيب الجنود الذين يخدمون أصلاً في الخضراء، فقد أظهر مقطع آخر جندياً عراقياً يضحك ويقول لأحد المعتصمين وهو يضع رأسه على كتفه: “12 سنة أخدم هنا ولم يسمح لي بالدخول مرة واحدة.. هذه أول مرة أدخل فيها البرلمان”. 

إلى جانب ذلك، شاركت أو استفادت مجموعات من المواطنين غير المحسوبين على الصدريين بالضرورة من هذه الأحداث. فقد وجد الباعة الجوالون فرصتهم في بيع بضائعهم الزهيدة، ودخل بعضهم إلى مبنى البرلمان، لكنهم أخرجوا منه لاحقاً بعدما انتقدهم صالح محمد العراقي، المعروف باسم وزير الصدر، ووصف مشاهد تجوالهم داخل أروقة المجلس بـ”غير الحضارية”. 

أما عند ساحة التحرير القريبة من البوابة التي دخلها الصدريون نحو البرلمان، كان سائقو “الكيا” (سيارات النقل السرفيس) ينادون: “برلمان برلمان.. بـ500 (دينار) برلمان.. نفر طالع برلمان (أي احتاج لنفر واحد كي انطلق)”.

كان هؤلاء يسخرون غير مصدقين، لا هم ولا المارّة، بالحال الجديدة.

خارطة الاعتصام: المساحة تتقلص  

في 31 تموز الماضي، لحظة اقتحام تابعي الصدر المنطقة الخضراء، كان قياديون في “سرايا السلام” يتواجدون ميدانياً ويراقبون الوضع. 

بدا واضحاً يومها أن القوات الخاصة المكلفة من قبل الحكومة بحماية المنطقة، كان لديها أوامر بعدم الوقوف بوجوه القادمين أو التعرض لهم، وهو ما أكده مسؤولون أمنيون لـ”جمار”. 

دخلت الحشود العابرة على جسر الجمهورية من ثلاث بوابات، هي بوابة وزارة الدفاع، والبوابة “رقم 1” وبوابة “التشريع” المفضية إلى مبنى البرلمان، بينما كانت القوات الأمنية تتراجع نحو وزارة الدفاع في حي كرادة مريم القريب. 

في البداية، حاولت قوات “حفظ النظام” ومكافحة الشغب التصدي لأتباع الصدر عندما أسقطوا الحواجز الكونكريتية وجرّوا بعضها على الأرض، كما أطلق عناصر من الحشد الشعبي النار في الهواء ظناً منهم أن الصدريين سيتوجهون نحو مقراتهم المهمة هناك.

أصيب أكثر من 70 شخصاً بجروح، قبل أن يتوقف إطلاق النار وقنابل الصوت والدخان وأغلقت قوات “مكافحة الشغب” خراطيم المياه، وصارت مع غيرها من القوات الأمنية تتشارك الطعام مع المقتحمين ورفع بعض عناصرها صور مقتدى الصدر. 

ليست القوات الأمنية المنتشرة في المنطقة الخضراء وحدها من غضت الطرف عن الاقتحام، فالعناصر الذين يتولون حماية مبنى البرلمان فعلوا ذلك أيضاً، وهؤلاء من القومية الكردية، وينتمي غالبيتهم للحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، حليف الصدر في تحالف “إنقاذ وطن” الذي تلاشى، لكن مع الاحتفاظ ببعض التوجهات والأفكار السياسية المشتركة.

لم تدخل أعداد من الوافدين الجدد إلى مبنى البرلمان مباشرةً، بل تقدموا أكثر.

كان هدفهم مقر مجلس القضاء الأعلى، الجهة التي ينظر الصدريون إليها كمتواطئة مع “الإطار التنسيقي” وإيران في إفشال مشروع “حكومة أغلبية وطنية”.

لكنهم سرعان ما انسحبوا بطلب من صالح محمد العراقي، وزير الصدر المستقيل. 

بالسرعة ذاتها، توّلت “سرايا السلام” مجمل الترتيبات الأمنية في مكان الاعتصام ومحيطه والطرق المؤدية إليها.

أُبقي على باب واحد فقط مفتوح من البوابات الثلاثة للمنطقة الخضراء، وهو باب “التشريع” الواقع على مسافة عشرات الأمتار فقط من مجلس النواب.

عند هذه البوابة، وضعت “السرايا” حاجزاً أمنياً من 10 عناصر لتفتيش الداخلين وطلب أوراق وسائل الإعلام وهويات الصحفيين. 

فيما وقف عناصر الأمن الحكوميون على جانب الطريق، واكتفوا بالمشاهدة. 

وأغلق عناصر “الأمن الوقائي” واستخبارات “السرايا” الطابق الثاني من مبنى البرلمان، ومنعت الدخول إلى غرف الكتل السياسية واللجان النيابية والأقسام المعنية بالتدقيق والحسابات وشؤون المتابعة، ولاحقاً أغلقت قاعة الجلسات. 

لم يعد لعناصر حماية مبنى البرلمان شغل كثير بعدما انحسروا إلى غرفهم والتواجد على جوانب الطرق المؤدية للمبنى. 

تشددت القيادة العسكرية للتيار الصدري في مسألة الأمن، وقد زادت من حواجز التفتيش وباتت أكثر من خمس مجموعات تتوزع عند مدخل المنطقة الخضراء من جهة وزارة الخارجية وتقاطع بوابة وزارة الدفاع “رقم 1” وبوابة التشريع.

ولم يعد مسموحاً للمتظاهرين سوى بدخول الباحة والحمامات الصحية، وينتشر بينهم مقاتلون من “السرايا” بزي مدني مهمتهم تحديد “المندسين” واعتقالهم، وكذلك منع من يردد هتافات مخالفة لتعليمات الصدر والاطلاع على محتوى اليافطات المرفوعة.

إضافة إلى ذلك، شكّلت “سرايا السلام” طوقاً أمنياً لحماية مبنى مجلس الوزراء القريب من البرلمان وأغلقت البوابات والطرق المؤدية للمؤسسات الحكومية الأخرى ومنازل المسؤولين. 

ورغم كل هذه الإجراءات الأمنية المشددة، فهناك في مكان الاعتصام، كانت قوات “سرايا السلام” تخشى أن تسقط صواريخ “كاتيوشا” على المعتصمين، خاصة عندما يصعّد زعيمهم خطابه. فهؤلاء لا يأمنون للفصائل الموالية لإيران أبداً، ويتوقعون منها أن تقصف الجموع المعتصمة في أية لحظة، كما أخبرنا مسؤول في “القوة الصاروخية” للسرايا. 

على ضوء كل هذا، لا بد من الإشارة إلى أنه قبل اقتحام البرلمان، توغل التيار الصدري في أكثر أجهزة الأمن حساسية: المخابرات. 

فعندما عيّن رئيس الوزراء، القائد العام للقوات المسلحة مصطفى الكاظمي مدير مكتبه رائد جوحي رئيساً لجهاز المخابرات، وضع أيضاً عامر الحلو الموسوي المقرب من التيار الصدري، في مهام وكيل رئيس الجهاز. 

كما وضع إبراهيم الزبيدي، والمقرب هو الآخر من التيار الصدري، مديراً لمكتبه خلفاً لجوحي. وبذلك كان الصدر قد سيطر على واحدة من أهم المؤسسات الأمنية، قبل أن يسيطر فعلياً من خلال أتباعه على الأرض على الخضراء المحصنة.

“الإطار التنسيقي”.. اللعب مع الصدر بورقته المفضّلة

منذ أن عُرف مقتدى الصدر على الساحة السياسية في 2003، لم يجرؤ كثيرون على معارضته أو مواجهته، وهو يملك القوة لفعل ما يشاء وفرض إرادته. 

لذا فإن موقف “الإطار التنسيقي” الذي رشّح محمد شياع السوداني لرئاسة الوزراء في تموز 2022، يعدّ غير مألوف إلى حدٍ ما بكونه معارضاً للصدر.

رفض “الإطار” الذي يسيّره بدرجة كبيرة الأمين العام لحركة “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي، ورئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، مطالب الصدر بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة. 

وبين هذين الرجلين ومقتدى الصدر، تاريخ مضطرب. 

فالخزعلي كان أقرب مساعدي الصدر، قبل أن ينشّق عن “جيش المهدي” في 2006 ويؤسس بـ”المجاميع الخاصّة”، التابعة للتيار الصدري التي وضعها الصدر بإمرته، تشكيلاً جديداً مستقلاً هو “العصائب”. 

ومع ذلك، فليست ثمة عداوة توازي تلك القائمة بين الصدر ونوري المالكي، الذي ضرب جيش المهدي في 2008 وما انفك يلازمه الفخر بذلك حتى الآن.

وأصر كل منهما، نوري المالكي وقيس الخزعلي، ومثلهم زعيم “تيار الحكمة” عمار الحكيم، على ترشيح محمد شياع السوداني، وهو ما أغضب الصدر وأتباعه فحرقوا مقرّات الأخير بعد تصريحات اعتبروها مستفزة، بقوله “هل نستبدل محمد شياع لأن طرفاً أراد ذلك؟ وعندما نقدم مرشحاً آخر ويرُفض أيضاً، هل نستبدله من جديد!”. 

وبعناد، اندفع الثلاثة ومعهم قادة بعض الفصائل المسلحة والأحزاب الشيعية الصغيرة على المضي في مواجهة ما وصفه بعضهم بـ”الانقلاب على الشرعية”، وتعطيل جلسة البرلمان لاختيار رئيس الجمهورية الذي يكلّف بدوره مرشحهم لتشكيل حكومة جديدة.

وفي يوم 1 آب، بينما كان المعتصمون من الصدريين ما يزالون يراوحون أمكنتهم في الخضراء، طلب قادة “الإطار التنسيقي” من أنصارهم النزول إلى الشارع في يوم حار لـ”استعادة الشرعية”.

وردت رسائل SMS لـ200 عنصر من لواء 40 في الحشد الشعبي، وهو تابع لـ”كتائب الإمام علي” التي يتزعمها شبل الزيدي، فضلاً عن 250 – 300 عنصر من الألوية 41 و42 و43 “عصائب أهل الحق” في الحشد الشعبي.

ووصلت الرسائل ذاتها لما يقارب 100 – 150 عنصراً في ألوية “كتائب حزب الله” المنضوية في الحشد، وهي 45 و46 و48 وكذلك عناصر من لواء 33 التابع لتيار “رساليون” بقيادة عدنان الشمحاني، وعناصر من “قوات الشهيد الصدر” لحزب الدعوة، ولواءي 3 و15 التابعين لمنظمة بدر رغم تواري زعيمها هادي العامري وتفضيله احتواء مقتدى الصدر على مواجهته.

كما تبلّغت تنظيمات مدنية تابعة لـ”تيار الحكمة” و”ائتلاف دولة القانون” و”حركة النجباء” بقيادة أكرم الكعبي، ومجموعات صغيرة من المجلس الأعلى التي يرأسه همام حمودي، و”حركة الأوفياء” التي يقودها حيدر الغراوي و”حركة عهد الله” ومؤسسها رجل الدين هاشم الحيدري. 

تجمع كل هؤلاء في مقرات ألويتهم والحركات التي ينتمون إليها، بما فيها “جامع الأبرار” التابع لحزب الدعوة في منطقة الجادرية وسط بغداد.

انتظروا حتى الخامسة مساءً، موعد بدء التظاهرة، وريثما يصل القادمون من المدن الأخرى. 

دخلت يومها عشرات الباصات الكبيرة والصغيرة من مختلف مداخل بغداد تحمل على متنها مدنيين حزبيين ومقاتلين بلا زي عسكري، ألزموا بالمشاركة في التظاهرة. 

عبر جسر “سريع الدورة” تقاطرت نحو 30 حافلة كبيرة تقل عناصر من “عصائب أهل الحق”، وعندما أوقفتهم القوات الأمنية للتفتيش، وجدت بحوزة بعضهم مسدسات وبنادق كلاشينكوف فاعتقلتهم واحتجزت سياراتهم ثم أطلقت سراحهم بعد اتصالات مكثفة وضغوط مارستها قياداتهم.

مع اكتمال العدد، انطلق نحو 15 إلى 17 ألف شخص نحو الجسر المعلق المفضي إلى البوابة “رقم 5” للمنطقة الخضراء، من جهة الجادرية. 

 بانتظار هؤلاء، كانت أطواق أمنية مشكلة من الجيش والشرطة الاتحادية وقوات “حفظ النظام”، تستتر خلف حواجز كونكريتية وضعت لمنعهم من دخول المنطقة الخضراء. 

ألقى بعضهم الحجارة صوب هذه القوات فردت عليهم بخراطيم المياه، وسارع قيس الخزعلي لتوجيه رسالة صوتية لهم ناشدهم فيها “عدم التقدم بشبر واحد داخل المنطقة الخضراء”. 

بدا واضحاً داخل هذه الأوساط غياب الولاء للقيادة وعدم الاقتناع بما أجبروا عليه وتحمّل مشقة الطريق والحرارة، وفق ما تناقلته الألسن آنذاك؛ بالذات أن عدم الحضور عنى تكبد عقوبة إدارية بينها قطع جزء من الراتب. 

كانت الغاية في الأساس من تلك التظاهرة إشعار الصدر بأن غرماءه يمكنهم اللعب بورقة الشارع أيضاً ومواجهته فيها لو أصرّ على ذلك. 

لهذا السبب، وافق قادة الفصائل المسلحة والشخصيات السياسية، باستثناء قيس الخزعلي ونوري المالكي، على مشاركة أتباعهم، دون أن يعني هذا تبنيهم الفكرة بل فقط من أجل إثبات الوجود وتكبير الصورة أمام الرأي العام، كما قال مسؤولون حزبيون كلفوا بإجراء التحضيرات والتنسيق.

وقبل التظاهرة بساعات، كانت قنوات على “التليغرام” مموّلة من بعض هؤلاء تتوعد أيضاً رئيس مجلس الوزراء، مصطفى الكاظمي، باعتباره مقربا من التيار الصدري.

ووجد المتظاهرون أنفسهم في حالة من التخبط وعدم وضوح القرار، حتى وصلتهم أوامر بعدم التصعيد والصدام المباشر أو اقتحام المنطقة الخضراء، مثلما تلقت القوات الأمنية المواجهة لهم تعليمات مشددة بتجنب استخدام الرصاص الحي أو قنابل الصوت.

اقتحموا أول حاجز، وتوقفوا أمام الثاني، وكان معهم قادة في الفصائل والحشد الشعبي كشبل الزيدي وشقيق الأمين العام لعصائب أهل الحق ليث الخزعلي، وجواد الطليباوي. 

ورافقتهم أيضاً شخصيات سياسية من قوى منخرطة في “الإطار التنسيقي”، بينهم رئيس كتلة “صادقون” النيابية التابعة لـ”العصائب”، عدنان فيحان مع النائب علي تركي والقياديان في ائتلاف دولة القانون جاسم محمد جعفر وخلف عبد الصمد، إضافة للنائبين السابقين حسن سالم وعطوان العطواني ورئيس مجلس محافظة البصرة الأسبق صباح البزوني، والمحلل السياسي المقرب من الفصائل المسلحة محمد البصري. 

لم يقدم أي من هؤلاء للمتظاهرين توضيحاً للخطوة القادمة، عدا أتباع عمار الحكيم الذين طُلب منهم العودة في السادسة والنصف إلى منزل الأخير في الجادرية لحضور مجلس عزاء حسيني يحييه المنشد باسم الكربلائي.

ولمّا باشر عناصر من “عصائب أهل الحق” نصب خيمتين وجلب أكداس من علب المياه، ظن الكثيرون أنهم أمام اعتصام يقابل اعتصام الصدريين. 

وتجلّت بقوّة في تلك اللحظة الخلافات بين قادة قوى “الإطار التنسيقي” وتصادمت القرارات بعشوائية بشأن ما سيفعله أنصارهم في الشارع، وهو ما اضطر المالكي والخزعلي إلى التراجع وطلبا عودة الجموع لمنازلهم. 

شكر قيس الخزعلي في رسالة صوتية المتظاهرين لدفاعهم عن “الدولة وشرعيتها ومؤسساتها الديمقراطية ومنع الانزلاق لفتنة داخلية”. 

سار الجمع على الجسر المعلق وفي الشارع المؤدي إلى ساحة “الحرية” المقابلة للمجمع الذي يسكن فيه عمار الحكيم، لكنهم عادوا في 12 آب إلى المكان ذاته ليعتصموا فيه ومعهم مطالب كتبها “الإطار التنسيقي” تتضمن الإصرار على تشكيل حكومة جديدة، خلافاً لرغبة ومطالب مقتدى الصدر بحل البرلمان وإعادة الانتخابات.

نظر الصدر وأتباعه إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان، كأحد من عطلّوا مشروع حكومة الأغلبية، وربطوه بإيران التي تجمعه معها علاقات معروفة. 

ردد الإعلام المُقرّب من الصدر أن زيدان أقرّ “خطيئة” الثلث المعّطل لجلسات البرلمان، ومنح قوى “الإطار” ورقة رابحة في المواجهة عندما أمنّوا 120 نائباً لا يحضرون جلسة اختيار رئيس الجمهورية فتصبح غير دستورية.

لقد فسّر القضاء عدم حضور ثلث أعضاء البرلمان جلسة انتخابات رئيس الجمهورية بأنها غير دستورية؛ ويؤدي عدم التصويت على رئيس جديد للبلاد إلى فراغ لا نهائي.

ينص الدستور على أن يكلف رئيس الجمهورية زعيم الكتلة الأكبر في البرلمان بتشكيل الحكومة الجديدة، وبعدم التصويت على رئيس بالأساس، لا يمكن تشكيل حكومة.

حذر الصدريون زيدان أكثر من مرة، لكن كل هذا لم يغير من قرار مجلس القضاء، فقرروا الاعتصام أمام مقر مجلس زيدان داخل المنطقة الخضراء في 23 آب. 

كانت ردة فعل رئيس مجلس القضاء الأعلى ليست عادية أو مألوفة، فقد أمر بتعطيل عمل المحاكم، وحمّل التيار الصدري علناً التبعات، ووضعه في إحراج كبير أمام المجتمع الدولي، واضطره في النهاية إلى سحب أنصاره سريعاً وإعادتهم إلى محيط البرلمان.

مضت الأيام بعدها في شد وجذب، واحتدت نبرة التصريحات من جميع الأطراف، حتى وقعت المعركة.

نهار الاقتحام وليلة النار: الصواريخ تخبط عشوائياً 

عندما نشر كاظم الحائري، المرجع الشيعي، بيان الاعتزال في الصباح المبكر ليوم 23 آب، وأعلن مقتدى الصدر على إثره اعتزاله السياسة “نهائياً”، تفلّتت الأمور واقتحم أنصار الأخير القصر الحكومي في المنطقة الخضراء. 

ظهر أنصار الصدر وهم يتجولون في القصر الفخم أو يسبحون في مسبحه الكبير.

بيد أنهم لم يمكثوا طويلاً، وسرعان ما قدِمت إليهم قوة عسكرية غير معروفة، وأخرجتهم بالقوة مستخدمة الرصاص والقنابل الدخانية، فسقط منهم نحو 12 قتيلا وعدة جرحى. 

فجاء الرد سريعاً، إذ جاء مسلحون موالون لمقتدى الصدر من أماكن متعددة، ولم يُصرح عن نيتهم. 

بحلول المساء، بدأت معركة شرسة.

قال خصوم الصدر أن “سرايا السلام” التابعة للصدر تنفذ انقلاباً وأن الفرقة الخاصة المكلفة بحماية المنطقة الخضراء تتصدى لهم، وسرعان ما بدأت مقاطع مصوّرة تنشر مشاهد من المعركة.

كان الصدريون يحتمون بكتل الخرسانة، خارج وداخل المنطقة المحصنّة، ويطلقون النار والصواريخ المحمولة على الكتف نحو قوات لم يظهر شيء من ملامحها. 

وظهر بعض المسلحين يرتدون الزي الأسود الكامل، ويرددون هتافات كان “جيش المهدي” يرددها قبل أكثر من عقد. 

أعلنت منصات على التليغرام موالية للتيار الصدري أن جيشهم “المرعب” قد عاد من التجميد. 

قال بعضهم إن لواء اسمه “الغضب الإلهي، ومدرّب في روسيا، يقاتل في الخضراء الآن”.

وعندما اشتدت المعركة، ووجد المسلحون الصدريون أنفسهم أمام خصم شرس أوقع ضحايا في صفوفهم، لجأوا إلى صواريخ “الكاتيوشا” وسلاح “الهاون”.

 ومن شهادات بعض من شاركوا في القتال، يظهر الغموض في تحديد الأطراف المضادة. 

كان أمجد علي (اسم مستعار) يمسك بندقيته ويقف أمام مقر مجلس القضاء الأعلى، وهو أحد حرّاسه. “لم أر شيئاً سوى الرصاص المتشابك. ولم أفهم من يقاتل من. سقط بقربي صاروخ والحمدلله لم أمت”، قال ضاحكاً.

مثل علي، لم يفهم كثيرون بالضبط ماذا يجري آنئذ، ومن الذي يقاتل أنصار الصدر.

لكن حيدر فاهم (اسم مستعار)، المقاتل ضمن مديرية أمن الحشد الشعبي،  والصدفة وحدها أبعدته عن المنطقة الخضراء يومها.

“أمن الحشد وكتائب حزب الله ومسلحون من فصائل أخرى، إضافة إلى قوات حماية المالكي (زعيم ائتلاف دولة القانون) هم من واجهوا الصدريين”.

أما بالنسبة لرئيس أركان الحشد الشعبي عبد العزيز المحمداوي لم تكن ليلة عادية. إذ أفاد أشخاص مطلعون بأن المحمداوي المعروف بـ”أبو فدك” كان يتواجد وقتها في منزله “الفخم” داخل المنطقة الخضراء، ويتابع سير المعركة شخصياً.

وروى الأشخاص ذاتهم بعض مشاهداتهم الشخصية.

قال أحدهم، وهو موظف مدني في هيئة الحشد الشعبي تواجد في الخضراء منذ صباح يوم الاثنين، “رأيت طابوراً من مقتحمي القصر اعتقلهم أمن الحشد الشعبي. غطوا وجوههم برفع أطراف قمصانهم وطيها للأعلى فوق رؤوسهم. ضربوا أحدهم، وأفرجوا عن شاب يافع بعدما بكى”.

الحال، استمر القتال حتى قرابة الحادية عشرة من ظهر اليوم التالي، وتوقف بعد مؤتمر صحفي لمقتدى الصدر قال فيه إن “القاتل والمقتول في النار” وأمر أنصاره بالانسحاب خلال 60 دقيقة فقط وإلا سيتبرأ من التيار الصدري كله، فنفذوا أمره فوراً.

حديث الانقلاب راج بعض الشيء، وكان مصدره منصات على التليغرام موالية لإيران. غير أن محمد عباس، المقاتل في “سرايا السلام” وقد دأب على حضور الاعتصام، يقدم رواية أخرى. “لو كان انقلاباً لحضرنا بأسلحتنا وأعلامنا وأفواج طوارئنا الثلاثة القوية، ولجلبنا تخصصّات عسكرية تتطلبها أي حركة انقلابية”. 

ما الذي جرى إذن؟ 

يفضّل قادة التيار الصدري الصمت حالياً، لا يتحدثون للإعلام، ولا يوضحون رأيهم بما حصل أو يردون على أسئلة كثيرة ليس لها جواب حتّى الآن. 

يكتفون برثاء قتلاهم، ويتشددون أكثر في مواقفهم السياسية تجاه الأحزاب المدعومة من إيران. 

وفي الخفاء، يحشّدون لجولة قتال أخرى متوقعة في أية لحظة.  

أخبرنا مقاتل “سرايا السلام” عن حركة جدية لإعادة تنشيط “جيش المهدي” استعداداً لجميع الاحتمالات التي قد تتكشف كما يقول.

“معلوماتنا واستخباراتنا تفيد أن الطرف الآخر يحشّد بكل قوة، ونحن نستعد له، كما أنشأنا مجموعات في تطبيقات المراسلة المجانية للإبلاغ عن أي حركة مريبة أو هجوم فردي يتعرض له أحدنا، فيهب القريبون لنجدته”.

تحدث لنا وسلاحه القريب منه جاهز لإطلاق النار بمجرد إنزال لوحة الأمان للأسفل.

# شارك في كتابة هذه المادة وإجراء المقابلات عدد من كتّاب موقع “جمار”

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

انحبست الأنفاس يوم 30 آب عندما شهدت بغداد حرباً بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة داخل المنطقة الخضراء المُحصنّة بين الأطراف الشيعية المتخاصمة. 

وقف سكّان العاصمة طوابير أمام الأفران ومحال بيع المواد الغذائية، وأخذ الكثير منهم يفكّر بالمستقبل القاتم الذي ينتظرهم.

وصف قيس الخزعلي، الأمين العام لـ”عصائب أهل الحق”، إحدى أشرس الفصائل الشيعية المسلحة في العراق، ليلة وصباح 30 آب الماضي بأنها كانت “أسوأ ليلة (..) منذ 2003”. 

على مدى ساعات، تطاير الرصاص وصواريخ آر بي جي (القذائف الصاروخية الدفع) فوق المنطقة الخضراء وداخلها.

فبعد إخراج قوات عسكرية موالية لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر من القصر الحكومي الذي اقتحمه أنصاره يوم 29 آب إثر اعتزال زعيمهم السياسة، قدِم مسلحون مساندون لهم فاندلعت معركة سقط خلالها عشرات القتلى والجرحى، في مواجهات بين القوات المحسوبة على الكتلة الصدرية وتلك المحسوبة على الإطار. 

جاء اعتزال الصدر بعد ساعات من إعلان مرجعه الفقهي كاظم الحائري اعتزاله المرجعية هو الآخر، ودعوة أتباعه إلى تقليد المرشد الإيراني علي خامنئي، بوصفه أحد مراجع التقليد الشيعة. 

لم يكن التوقيت بريئاً بنظر الصدريين، فهو قد جاء في ذروة نشاطهم السياسي المضاد للأحزاب الشيعية الموالية لإيران، وارتابوا في أمر الحائري، حتى قال بعضهم إنه قيد الإقامة الجبرية في قم.

على الرغم من انقضاء المحنة بوقت قصير نسبياً، ولكن بكلفة أرواح باهظة (30 قتيلا خلال نحو 24 ساعة، وذلك بعدما أمر الصدر مريديه بالانسحاب من الخضراء خلال ستين دقيقة، إلا أن أمراً ما قد بات جلياً: لم تعد الخضراء ومؤسساتها ورمزيتها التي اتخذتها منذ 2003 بمعزل -فعلي- عن الاضطرابات المستمرة في السياسة العراقية. 

كيف بدأت الحكاية؟

منذ أواخر تموز الماضي، كان العراقيون، وسكان العاصمة بغداد بالذات، يحاولون ممارسة حياتهم اليومية بشكل طبيعي. إلا أن الخوف كان بادياً على وجوه الكسبة، ومن حركة السيارات المتوترة كان يمكن التعرف على ما يعتري الناس؛ علماً أن كثرين كانوا ممن لم يأبهوا أو يعبأوا بما يجري بعد نحو عقدين من المشكلات الأمنية والسياسية حتى أضحى الاضطراب جزءاً من الحياة العراقية العامة.

كانت عيون وآذان الملايين من العراقيين موجهة لما يجري في المنطقة الخضراء، وذلك مع تصاعد الاحتدام الدائر في البرلمان وخارجه بين أحزاب الكتلة الصدرية و”الإطار التنسيقي”، وكبحهما لإمكانية تشكيل حكومة منذ الانتخابات التي جرت في تشرين الأول 2021. كانت الاحتمالات كلها مفتوحة على الاحتراب والانفلات الأمني ولا أحد كان بوسعه استشراف مآل الأمور.  

وبالفعل، حدث ما خشيه كثيرون. ففي 15 تموز 2022 قرر مقتدى الصدر، الزعيم الشيعي الأعلى كعباً في عالم السياسة وذو النفوذ الاجتماعي الهائل، غلق البرلمان بحشود من أنصاره ليمنع غرماءه في “الإطار التنسيقي”، الذي يضم قوى شيعية خسرت الانتخابات ثم ما لبثت أن انتعشت مقاعدها النيابية بعد استقالة الكتلة الصدرية (73 نائباً) في حزيران الماضي، من تشكيل حكومة جديدة. 

أراد الصدر توليف ما أسماه “حكومة أغلبية وطنية” بجانب الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة السني، بيد أن بقية القوى الشيعية خشيت من “سطوته” المحتملة وأفكاره عنهم وعن “فصائل المقاومة” والحشد الشعبي.

وقد نجحوا بإيقاف مشروعه.

لم تكن يوماً المنطقة الخضراء الحصينة بمثل الحال التي صارت عليها في تلك الأيام، فآلاف البشر من مختلف الأعمار، وبينهم نساء طاعنات في السن، افترشوا الأرض أمام مبنى البرلمان وُجلبت قطعان من الماشية لتأمين الغذاء لهم، يحرسهم نحو 500 من مقاتلي الصدر، لكن بلا سلاح ظاهر. 

همهمة وضجيج دائم وحركة محمومة وسط أجواء حارة جداً. الغالبية منهم يرقبون هواتفهم باستمرار، فلا واسطة بينهم وبين زعيمهم سوى حسابه على تويتر وحساب “وزير القائد – صالح محمد العراقي” (النائب عن الكتلة الصدرية المستقيل)، ولجنة تشكلت لتولي تنظيم الاعتصام.  

ولتزامن الاعتصام مع شهر محرم، بُعثت أصوات القصائد الحسينية والصدرية وانتشرت الصور المتخيّلة للحسين بن علي بن أبي طالب جنباً إلى جنب مع صور مقتدى الصدر ووالده المرجع الديني محمد محمد صادق، الذي اغتيل في التسعينيات.

استمر اعتصام الصدريين في البرلمان، معطلين جلساته، من يوم 15 تموز إلى 8 آب، حينما أمر الصدر أتباعه بالانسحاب. بيد أن جلسات البرلمان ما تزال معطلة مذاك، تخوفاً من استيلاء الصدريين على البرلمان مرة أخرى؛ علماً بأن العراق ما تزال تقوده حكومة تصريف أعمال ولم تصل الأزمة السياسية إلى أي مخرج. 

إلى جانب معانيه السياسة، فقد كان لتكسير الحواجز التي أقيمت بين العراقيين وبين الخضراء وعوالمها، أثر اجتماعي وسياسي امتد إلى أبعد من هؤلاء المعتصمين في داخلها. 

اعتصامات كلفت مليارات!

 في الساعات الأولى لاقتحام المنطقة الخضراء وبدء الاعتصام، كان العدد يقارب 17 ألف شخص، ثم قلّ بعد التوجيه بانسحاب القادمين من خارج بغداد وعودتهم إلى منازلهم، وقُدِّر عدد من يقضون ليلتهم في محيط مبنى البرلمان بنحو ألفي معتصم.

قدِم أغلب المعتصمين من مدن بعيدة ومناطق بغداد الفقيرة تلبية لنداء الصدر. وشعر كثيرون منهم في البداية بالجوع، فلا حوانيت أو سوبر ماركت هناك، وحتى إن وجدت فالأسعار غالية والمساحة التي يمكنهم التحرك فيها محدودة. تدافع هؤلاء فيما بينهم للحصول على الطعام الذي كان يرسل بكميات قليلة إليهم في الأيام الأولى. 

رغم صرامة قيادة التيار الصدري ومركزيتها الشديدة، لم يكن بالإمكان السيطرة التامة على الجموع الكبيرة. 

لكن شيئاً فشيئا، بدأ التنظيم يظهر وعربات الغذاء والمياه الكبيرة تدخل بواسطة قوات “سرايا السلام” التابعة لمقتدى الصدر وقد ارتدى عناصرها ملابس مدنية، أو شبه عسكرية إحدى قطعها سوداء، وقد لوحظ أن علب المياه كان مصدرها معمل “مياه تعبئة الأكرمين” التابع لـ”سرايا السلام”. 

كما قدُمت الفواكه المثلّجة وبعض صنوف الطعام الفاخر والمرق باللحم والأكلات السريعة، ونُصبت 250 مبردة هواء للتخفيف من حرارة الجو. 

كما توزع مبيت المعتصمين على أكثر من 250 سرداق من الذين كانوا يقدمون الطعام والشراب إلى جانب خدمات المبيت. 

أما عن تمويل شراء هذه الحاجيات، فقد تعددت مصادره. سُحبت أموال من صناديق “البنيان المرصوص”، المشروع الاجتماعي التكافلي الذي أسسه الصدر في شباط 2021 لمساعدة أتباعه مالياً. كما قدّم نواب “الكتلة الصدرية” المستقيلون وتجار موالون وشيوخ عشائر بعض الدعم. 

كما أن بعض القبائل مثل “الشويلات” و”بني لام” و”بيت سفيح” و”مياح” و”البودراج” وغيرها، لم تأتِ بأفرادها وشيوخها فقط، بل جلبت معها مواكب خدمية لتقدم الطعام والمياه والشاي والعصير والقهوة العربية للمعتصمين. 

أما مشكلة النقل فسرعان ما حُلّت بتنظيم خط للباصات الصغيرة وعربات “التك تك”. 

بالحديث مع مسؤولين في التيار الصدري، يمكن تقدير ما صُرف على الاعتصام حتى 8 آب، أي نحو ربع مدة الاعتصام، بنحو أربع مليارات دينار عراقي، (ما يعادل نحو 2,8 مليون دولار).

وفي البداية نام المعتصمون داخل البرلمان، منعمين بمكيفات الهواء وحماماته ومقاعده الفاخرة، فيما راجت صور شبان يمرحون ويصورون مقاطع ساخرة وينشروها على مواقع التواصل الاجتماعي، من بينها مقطع يظهر مرآة داخل حمامات البرلمان يعمل الضوء المحيط بها بمجرد اللمس عليها.

وعندما دعا الصدر أنصاره، في 2 آب، لغلق المبنى والاعتصام خارجه، مدفوعاً ربما بضغط الانتقادات حول “إهانة” المؤسسة التشريعية، ظهر التأفف الصامت بين الجموع وسببه حرارة الشمس الحارقة وسرت بينهم حالة من الاضطراب. 

عوّل المناوئون على هذا التصرف، وتوقعوا أن يتعب الصدريون ويخف زخمهم عندما تلسعهم الشمس وتطول بهم أيام الاعتصام. بيد أن القيادة الصدرية سرعان ما تنبّهت إلى ذلك، ووضّحت أن الإغلاق يقتصر على قاعة الجلسات دون بقية أروقة المبنى. 

ولم يقتصر الاندهاش على المعتصمين أنفسهم من دواخل البرلمان وما يحويه، بل كان من نصيب الجنود الذين يخدمون أصلاً في الخضراء، فقد أظهر مقطع آخر جندياً عراقياً يضحك ويقول لأحد المعتصمين وهو يضع رأسه على كتفه: “12 سنة أخدم هنا ولم يسمح لي بالدخول مرة واحدة.. هذه أول مرة أدخل فيها البرلمان”. 

إلى جانب ذلك، شاركت أو استفادت مجموعات من المواطنين غير المحسوبين على الصدريين بالضرورة من هذه الأحداث. فقد وجد الباعة الجوالون فرصتهم في بيع بضائعهم الزهيدة، ودخل بعضهم إلى مبنى البرلمان، لكنهم أخرجوا منه لاحقاً بعدما انتقدهم صالح محمد العراقي، المعروف باسم وزير الصدر، ووصف مشاهد تجوالهم داخل أروقة المجلس بـ”غير الحضارية”. 

أما عند ساحة التحرير القريبة من البوابة التي دخلها الصدريون نحو البرلمان، كان سائقو “الكيا” (سيارات النقل السرفيس) ينادون: “برلمان برلمان.. بـ500 (دينار) برلمان.. نفر طالع برلمان (أي احتاج لنفر واحد كي انطلق)”.

كان هؤلاء يسخرون غير مصدقين، لا هم ولا المارّة، بالحال الجديدة.

خارطة الاعتصام: المساحة تتقلص  

في 31 تموز الماضي، لحظة اقتحام تابعي الصدر المنطقة الخضراء، كان قياديون في “سرايا السلام” يتواجدون ميدانياً ويراقبون الوضع. 

بدا واضحاً يومها أن القوات الخاصة المكلفة من قبل الحكومة بحماية المنطقة، كان لديها أوامر بعدم الوقوف بوجوه القادمين أو التعرض لهم، وهو ما أكده مسؤولون أمنيون لـ”جمار”. 

دخلت الحشود العابرة على جسر الجمهورية من ثلاث بوابات، هي بوابة وزارة الدفاع، والبوابة “رقم 1” وبوابة “التشريع” المفضية إلى مبنى البرلمان، بينما كانت القوات الأمنية تتراجع نحو وزارة الدفاع في حي كرادة مريم القريب. 

في البداية، حاولت قوات “حفظ النظام” ومكافحة الشغب التصدي لأتباع الصدر عندما أسقطوا الحواجز الكونكريتية وجرّوا بعضها على الأرض، كما أطلق عناصر من الحشد الشعبي النار في الهواء ظناً منهم أن الصدريين سيتوجهون نحو مقراتهم المهمة هناك.

أصيب أكثر من 70 شخصاً بجروح، قبل أن يتوقف إطلاق النار وقنابل الصوت والدخان وأغلقت قوات “مكافحة الشغب” خراطيم المياه، وصارت مع غيرها من القوات الأمنية تتشارك الطعام مع المقتحمين ورفع بعض عناصرها صور مقتدى الصدر. 

ليست القوات الأمنية المنتشرة في المنطقة الخضراء وحدها من غضت الطرف عن الاقتحام، فالعناصر الذين يتولون حماية مبنى البرلمان فعلوا ذلك أيضاً، وهؤلاء من القومية الكردية، وينتمي غالبيتهم للحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، حليف الصدر في تحالف “إنقاذ وطن” الذي تلاشى، لكن مع الاحتفاظ ببعض التوجهات والأفكار السياسية المشتركة.

لم تدخل أعداد من الوافدين الجدد إلى مبنى البرلمان مباشرةً، بل تقدموا أكثر.

كان هدفهم مقر مجلس القضاء الأعلى، الجهة التي ينظر الصدريون إليها كمتواطئة مع “الإطار التنسيقي” وإيران في إفشال مشروع “حكومة أغلبية وطنية”.

لكنهم سرعان ما انسحبوا بطلب من صالح محمد العراقي، وزير الصدر المستقيل. 

بالسرعة ذاتها، توّلت “سرايا السلام” مجمل الترتيبات الأمنية في مكان الاعتصام ومحيطه والطرق المؤدية إليها.

أُبقي على باب واحد فقط مفتوح من البوابات الثلاثة للمنطقة الخضراء، وهو باب “التشريع” الواقع على مسافة عشرات الأمتار فقط من مجلس النواب.

عند هذه البوابة، وضعت “السرايا” حاجزاً أمنياً من 10 عناصر لتفتيش الداخلين وطلب أوراق وسائل الإعلام وهويات الصحفيين. 

فيما وقف عناصر الأمن الحكوميون على جانب الطريق، واكتفوا بالمشاهدة. 

وأغلق عناصر “الأمن الوقائي” واستخبارات “السرايا” الطابق الثاني من مبنى البرلمان، ومنعت الدخول إلى غرف الكتل السياسية واللجان النيابية والأقسام المعنية بالتدقيق والحسابات وشؤون المتابعة، ولاحقاً أغلقت قاعة الجلسات. 

لم يعد لعناصر حماية مبنى البرلمان شغل كثير بعدما انحسروا إلى غرفهم والتواجد على جوانب الطرق المؤدية للمبنى. 

تشددت القيادة العسكرية للتيار الصدري في مسألة الأمن، وقد زادت من حواجز التفتيش وباتت أكثر من خمس مجموعات تتوزع عند مدخل المنطقة الخضراء من جهة وزارة الخارجية وتقاطع بوابة وزارة الدفاع “رقم 1” وبوابة التشريع.

ولم يعد مسموحاً للمتظاهرين سوى بدخول الباحة والحمامات الصحية، وينتشر بينهم مقاتلون من “السرايا” بزي مدني مهمتهم تحديد “المندسين” واعتقالهم، وكذلك منع من يردد هتافات مخالفة لتعليمات الصدر والاطلاع على محتوى اليافطات المرفوعة.

إضافة إلى ذلك، شكّلت “سرايا السلام” طوقاً أمنياً لحماية مبنى مجلس الوزراء القريب من البرلمان وأغلقت البوابات والطرق المؤدية للمؤسسات الحكومية الأخرى ومنازل المسؤولين. 

ورغم كل هذه الإجراءات الأمنية المشددة، فهناك في مكان الاعتصام، كانت قوات “سرايا السلام” تخشى أن تسقط صواريخ “كاتيوشا” على المعتصمين، خاصة عندما يصعّد زعيمهم خطابه. فهؤلاء لا يأمنون للفصائل الموالية لإيران أبداً، ويتوقعون منها أن تقصف الجموع المعتصمة في أية لحظة، كما أخبرنا مسؤول في “القوة الصاروخية” للسرايا. 

على ضوء كل هذا، لا بد من الإشارة إلى أنه قبل اقتحام البرلمان، توغل التيار الصدري في أكثر أجهزة الأمن حساسية: المخابرات. 

فعندما عيّن رئيس الوزراء، القائد العام للقوات المسلحة مصطفى الكاظمي مدير مكتبه رائد جوحي رئيساً لجهاز المخابرات، وضع أيضاً عامر الحلو الموسوي المقرب من التيار الصدري، في مهام وكيل رئيس الجهاز. 

كما وضع إبراهيم الزبيدي، والمقرب هو الآخر من التيار الصدري، مديراً لمكتبه خلفاً لجوحي. وبذلك كان الصدر قد سيطر على واحدة من أهم المؤسسات الأمنية، قبل أن يسيطر فعلياً من خلال أتباعه على الأرض على الخضراء المحصنة.

“الإطار التنسيقي”.. اللعب مع الصدر بورقته المفضّلة

منذ أن عُرف مقتدى الصدر على الساحة السياسية في 2003، لم يجرؤ كثيرون على معارضته أو مواجهته، وهو يملك القوة لفعل ما يشاء وفرض إرادته. 

لذا فإن موقف “الإطار التنسيقي” الذي رشّح محمد شياع السوداني لرئاسة الوزراء في تموز 2022، يعدّ غير مألوف إلى حدٍ ما بكونه معارضاً للصدر.

رفض “الإطار” الذي يسيّره بدرجة كبيرة الأمين العام لحركة “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي، ورئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، مطالب الصدر بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة. 

وبين هذين الرجلين ومقتدى الصدر، تاريخ مضطرب. 

فالخزعلي كان أقرب مساعدي الصدر، قبل أن ينشّق عن “جيش المهدي” في 2006 ويؤسس بـ”المجاميع الخاصّة”، التابعة للتيار الصدري التي وضعها الصدر بإمرته، تشكيلاً جديداً مستقلاً هو “العصائب”. 

ومع ذلك، فليست ثمة عداوة توازي تلك القائمة بين الصدر ونوري المالكي، الذي ضرب جيش المهدي في 2008 وما انفك يلازمه الفخر بذلك حتى الآن.

وأصر كل منهما، نوري المالكي وقيس الخزعلي، ومثلهم زعيم “تيار الحكمة” عمار الحكيم، على ترشيح محمد شياع السوداني، وهو ما أغضب الصدر وأتباعه فحرقوا مقرّات الأخير بعد تصريحات اعتبروها مستفزة، بقوله “هل نستبدل محمد شياع لأن طرفاً أراد ذلك؟ وعندما نقدم مرشحاً آخر ويرُفض أيضاً، هل نستبدله من جديد!”. 

وبعناد، اندفع الثلاثة ومعهم قادة بعض الفصائل المسلحة والأحزاب الشيعية الصغيرة على المضي في مواجهة ما وصفه بعضهم بـ”الانقلاب على الشرعية”، وتعطيل جلسة البرلمان لاختيار رئيس الجمهورية الذي يكلّف بدوره مرشحهم لتشكيل حكومة جديدة.

وفي يوم 1 آب، بينما كان المعتصمون من الصدريين ما يزالون يراوحون أمكنتهم في الخضراء، طلب قادة “الإطار التنسيقي” من أنصارهم النزول إلى الشارع في يوم حار لـ”استعادة الشرعية”.

وردت رسائل SMS لـ200 عنصر من لواء 40 في الحشد الشعبي، وهو تابع لـ”كتائب الإمام علي” التي يتزعمها شبل الزيدي، فضلاً عن 250 – 300 عنصر من الألوية 41 و42 و43 “عصائب أهل الحق” في الحشد الشعبي.

ووصلت الرسائل ذاتها لما يقارب 100 – 150 عنصراً في ألوية “كتائب حزب الله” المنضوية في الحشد، وهي 45 و46 و48 وكذلك عناصر من لواء 33 التابع لتيار “رساليون” بقيادة عدنان الشمحاني، وعناصر من “قوات الشهيد الصدر” لحزب الدعوة، ولواءي 3 و15 التابعين لمنظمة بدر رغم تواري زعيمها هادي العامري وتفضيله احتواء مقتدى الصدر على مواجهته.

كما تبلّغت تنظيمات مدنية تابعة لـ”تيار الحكمة” و”ائتلاف دولة القانون” و”حركة النجباء” بقيادة أكرم الكعبي، ومجموعات صغيرة من المجلس الأعلى التي يرأسه همام حمودي، و”حركة الأوفياء” التي يقودها حيدر الغراوي و”حركة عهد الله” ومؤسسها رجل الدين هاشم الحيدري. 

تجمع كل هؤلاء في مقرات ألويتهم والحركات التي ينتمون إليها، بما فيها “جامع الأبرار” التابع لحزب الدعوة في منطقة الجادرية وسط بغداد.

انتظروا حتى الخامسة مساءً، موعد بدء التظاهرة، وريثما يصل القادمون من المدن الأخرى. 

دخلت يومها عشرات الباصات الكبيرة والصغيرة من مختلف مداخل بغداد تحمل على متنها مدنيين حزبيين ومقاتلين بلا زي عسكري، ألزموا بالمشاركة في التظاهرة. 

عبر جسر “سريع الدورة” تقاطرت نحو 30 حافلة كبيرة تقل عناصر من “عصائب أهل الحق”، وعندما أوقفتهم القوات الأمنية للتفتيش، وجدت بحوزة بعضهم مسدسات وبنادق كلاشينكوف فاعتقلتهم واحتجزت سياراتهم ثم أطلقت سراحهم بعد اتصالات مكثفة وضغوط مارستها قياداتهم.

مع اكتمال العدد، انطلق نحو 15 إلى 17 ألف شخص نحو الجسر المعلق المفضي إلى البوابة “رقم 5” للمنطقة الخضراء، من جهة الجادرية. 

 بانتظار هؤلاء، كانت أطواق أمنية مشكلة من الجيش والشرطة الاتحادية وقوات “حفظ النظام”، تستتر خلف حواجز كونكريتية وضعت لمنعهم من دخول المنطقة الخضراء. 

ألقى بعضهم الحجارة صوب هذه القوات فردت عليهم بخراطيم المياه، وسارع قيس الخزعلي لتوجيه رسالة صوتية لهم ناشدهم فيها “عدم التقدم بشبر واحد داخل المنطقة الخضراء”. 

بدا واضحاً داخل هذه الأوساط غياب الولاء للقيادة وعدم الاقتناع بما أجبروا عليه وتحمّل مشقة الطريق والحرارة، وفق ما تناقلته الألسن آنذاك؛ بالذات أن عدم الحضور عنى تكبد عقوبة إدارية بينها قطع جزء من الراتب. 

كانت الغاية في الأساس من تلك التظاهرة إشعار الصدر بأن غرماءه يمكنهم اللعب بورقة الشارع أيضاً ومواجهته فيها لو أصرّ على ذلك. 

لهذا السبب، وافق قادة الفصائل المسلحة والشخصيات السياسية، باستثناء قيس الخزعلي ونوري المالكي، على مشاركة أتباعهم، دون أن يعني هذا تبنيهم الفكرة بل فقط من أجل إثبات الوجود وتكبير الصورة أمام الرأي العام، كما قال مسؤولون حزبيون كلفوا بإجراء التحضيرات والتنسيق.

وقبل التظاهرة بساعات، كانت قنوات على “التليغرام” مموّلة من بعض هؤلاء تتوعد أيضاً رئيس مجلس الوزراء، مصطفى الكاظمي، باعتباره مقربا من التيار الصدري.

ووجد المتظاهرون أنفسهم في حالة من التخبط وعدم وضوح القرار، حتى وصلتهم أوامر بعدم التصعيد والصدام المباشر أو اقتحام المنطقة الخضراء، مثلما تلقت القوات الأمنية المواجهة لهم تعليمات مشددة بتجنب استخدام الرصاص الحي أو قنابل الصوت.

اقتحموا أول حاجز، وتوقفوا أمام الثاني، وكان معهم قادة في الفصائل والحشد الشعبي كشبل الزيدي وشقيق الأمين العام لعصائب أهل الحق ليث الخزعلي، وجواد الطليباوي. 

ورافقتهم أيضاً شخصيات سياسية من قوى منخرطة في “الإطار التنسيقي”، بينهم رئيس كتلة “صادقون” النيابية التابعة لـ”العصائب”، عدنان فيحان مع النائب علي تركي والقياديان في ائتلاف دولة القانون جاسم محمد جعفر وخلف عبد الصمد، إضافة للنائبين السابقين حسن سالم وعطوان العطواني ورئيس مجلس محافظة البصرة الأسبق صباح البزوني، والمحلل السياسي المقرب من الفصائل المسلحة محمد البصري. 

لم يقدم أي من هؤلاء للمتظاهرين توضيحاً للخطوة القادمة، عدا أتباع عمار الحكيم الذين طُلب منهم العودة في السادسة والنصف إلى منزل الأخير في الجادرية لحضور مجلس عزاء حسيني يحييه المنشد باسم الكربلائي.

ولمّا باشر عناصر من “عصائب أهل الحق” نصب خيمتين وجلب أكداس من علب المياه، ظن الكثيرون أنهم أمام اعتصام يقابل اعتصام الصدريين. 

وتجلّت بقوّة في تلك اللحظة الخلافات بين قادة قوى “الإطار التنسيقي” وتصادمت القرارات بعشوائية بشأن ما سيفعله أنصارهم في الشارع، وهو ما اضطر المالكي والخزعلي إلى التراجع وطلبا عودة الجموع لمنازلهم. 

شكر قيس الخزعلي في رسالة صوتية المتظاهرين لدفاعهم عن “الدولة وشرعيتها ومؤسساتها الديمقراطية ومنع الانزلاق لفتنة داخلية”. 

سار الجمع على الجسر المعلق وفي الشارع المؤدي إلى ساحة “الحرية” المقابلة للمجمع الذي يسكن فيه عمار الحكيم، لكنهم عادوا في 12 آب إلى المكان ذاته ليعتصموا فيه ومعهم مطالب كتبها “الإطار التنسيقي” تتضمن الإصرار على تشكيل حكومة جديدة، خلافاً لرغبة ومطالب مقتدى الصدر بحل البرلمان وإعادة الانتخابات.

نظر الصدر وأتباعه إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان، كأحد من عطلّوا مشروع حكومة الأغلبية، وربطوه بإيران التي تجمعه معها علاقات معروفة. 

ردد الإعلام المُقرّب من الصدر أن زيدان أقرّ “خطيئة” الثلث المعّطل لجلسات البرلمان، ومنح قوى “الإطار” ورقة رابحة في المواجهة عندما أمنّوا 120 نائباً لا يحضرون جلسة اختيار رئيس الجمهورية فتصبح غير دستورية.

لقد فسّر القضاء عدم حضور ثلث أعضاء البرلمان جلسة انتخابات رئيس الجمهورية بأنها غير دستورية؛ ويؤدي عدم التصويت على رئيس جديد للبلاد إلى فراغ لا نهائي.

ينص الدستور على أن يكلف رئيس الجمهورية زعيم الكتلة الأكبر في البرلمان بتشكيل الحكومة الجديدة، وبعدم التصويت على رئيس بالأساس، لا يمكن تشكيل حكومة.

حذر الصدريون زيدان أكثر من مرة، لكن كل هذا لم يغير من قرار مجلس القضاء، فقرروا الاعتصام أمام مقر مجلس زيدان داخل المنطقة الخضراء في 23 آب. 

كانت ردة فعل رئيس مجلس القضاء الأعلى ليست عادية أو مألوفة، فقد أمر بتعطيل عمل المحاكم، وحمّل التيار الصدري علناً التبعات، ووضعه في إحراج كبير أمام المجتمع الدولي، واضطره في النهاية إلى سحب أنصاره سريعاً وإعادتهم إلى محيط البرلمان.

مضت الأيام بعدها في شد وجذب، واحتدت نبرة التصريحات من جميع الأطراف، حتى وقعت المعركة.

نهار الاقتحام وليلة النار: الصواريخ تخبط عشوائياً 

عندما نشر كاظم الحائري، المرجع الشيعي، بيان الاعتزال في الصباح المبكر ليوم 23 آب، وأعلن مقتدى الصدر على إثره اعتزاله السياسة “نهائياً”، تفلّتت الأمور واقتحم أنصار الأخير القصر الحكومي في المنطقة الخضراء. 

ظهر أنصار الصدر وهم يتجولون في القصر الفخم أو يسبحون في مسبحه الكبير.

بيد أنهم لم يمكثوا طويلاً، وسرعان ما قدِمت إليهم قوة عسكرية غير معروفة، وأخرجتهم بالقوة مستخدمة الرصاص والقنابل الدخانية، فسقط منهم نحو 12 قتيلا وعدة جرحى. 

فجاء الرد سريعاً، إذ جاء مسلحون موالون لمقتدى الصدر من أماكن متعددة، ولم يُصرح عن نيتهم. 

بحلول المساء، بدأت معركة شرسة.

قال خصوم الصدر أن “سرايا السلام” التابعة للصدر تنفذ انقلاباً وأن الفرقة الخاصة المكلفة بحماية المنطقة الخضراء تتصدى لهم، وسرعان ما بدأت مقاطع مصوّرة تنشر مشاهد من المعركة.

كان الصدريون يحتمون بكتل الخرسانة، خارج وداخل المنطقة المحصنّة، ويطلقون النار والصواريخ المحمولة على الكتف نحو قوات لم يظهر شيء من ملامحها. 

وظهر بعض المسلحين يرتدون الزي الأسود الكامل، ويرددون هتافات كان “جيش المهدي” يرددها قبل أكثر من عقد. 

أعلنت منصات على التليغرام موالية للتيار الصدري أن جيشهم “المرعب” قد عاد من التجميد. 

قال بعضهم إن لواء اسمه “الغضب الإلهي، ومدرّب في روسيا، يقاتل في الخضراء الآن”.

وعندما اشتدت المعركة، ووجد المسلحون الصدريون أنفسهم أمام خصم شرس أوقع ضحايا في صفوفهم، لجأوا إلى صواريخ “الكاتيوشا” وسلاح “الهاون”.

 ومن شهادات بعض من شاركوا في القتال، يظهر الغموض في تحديد الأطراف المضادة. 

كان أمجد علي (اسم مستعار) يمسك بندقيته ويقف أمام مقر مجلس القضاء الأعلى، وهو أحد حرّاسه. “لم أر شيئاً سوى الرصاص المتشابك. ولم أفهم من يقاتل من. سقط بقربي صاروخ والحمدلله لم أمت”، قال ضاحكاً.

مثل علي، لم يفهم كثيرون بالضبط ماذا يجري آنئذ، ومن الذي يقاتل أنصار الصدر.

لكن حيدر فاهم (اسم مستعار)، المقاتل ضمن مديرية أمن الحشد الشعبي،  والصدفة وحدها أبعدته عن المنطقة الخضراء يومها.

“أمن الحشد وكتائب حزب الله ومسلحون من فصائل أخرى، إضافة إلى قوات حماية المالكي (زعيم ائتلاف دولة القانون) هم من واجهوا الصدريين”.

أما بالنسبة لرئيس أركان الحشد الشعبي عبد العزيز المحمداوي لم تكن ليلة عادية. إذ أفاد أشخاص مطلعون بأن المحمداوي المعروف بـ”أبو فدك” كان يتواجد وقتها في منزله “الفخم” داخل المنطقة الخضراء، ويتابع سير المعركة شخصياً.

وروى الأشخاص ذاتهم بعض مشاهداتهم الشخصية.

قال أحدهم، وهو موظف مدني في هيئة الحشد الشعبي تواجد في الخضراء منذ صباح يوم الاثنين، “رأيت طابوراً من مقتحمي القصر اعتقلهم أمن الحشد الشعبي. غطوا وجوههم برفع أطراف قمصانهم وطيها للأعلى فوق رؤوسهم. ضربوا أحدهم، وأفرجوا عن شاب يافع بعدما بكى”.

الحال، استمر القتال حتى قرابة الحادية عشرة من ظهر اليوم التالي، وتوقف بعد مؤتمر صحفي لمقتدى الصدر قال فيه إن “القاتل والمقتول في النار” وأمر أنصاره بالانسحاب خلال 60 دقيقة فقط وإلا سيتبرأ من التيار الصدري كله، فنفذوا أمره فوراً.

حديث الانقلاب راج بعض الشيء، وكان مصدره منصات على التليغرام موالية لإيران. غير أن محمد عباس، المقاتل في “سرايا السلام” وقد دأب على حضور الاعتصام، يقدم رواية أخرى. “لو كان انقلاباً لحضرنا بأسلحتنا وأعلامنا وأفواج طوارئنا الثلاثة القوية، ولجلبنا تخصصّات عسكرية تتطلبها أي حركة انقلابية”. 

ما الذي جرى إذن؟ 

يفضّل قادة التيار الصدري الصمت حالياً، لا يتحدثون للإعلام، ولا يوضحون رأيهم بما حصل أو يردون على أسئلة كثيرة ليس لها جواب حتّى الآن. 

يكتفون برثاء قتلاهم، ويتشددون أكثر في مواقفهم السياسية تجاه الأحزاب المدعومة من إيران. 

وفي الخفاء، يحشّدون لجولة قتال أخرى متوقعة في أية لحظة.  

أخبرنا مقاتل “سرايا السلام” عن حركة جدية لإعادة تنشيط “جيش المهدي” استعداداً لجميع الاحتمالات التي قد تتكشف كما يقول.

“معلوماتنا واستخباراتنا تفيد أن الطرف الآخر يحشّد بكل قوة، ونحن نستعد له، كما أنشأنا مجموعات في تطبيقات المراسلة المجانية للإبلاغ عن أي حركة مريبة أو هجوم فردي يتعرض له أحدنا، فيهب القريبون لنجدته”.

تحدث لنا وسلاحه القريب منه جاهز لإطلاق النار بمجرد إنزال لوحة الأمان للأسفل.

# شارك في كتابة هذه المادة وإجراء المقابلات عدد من كتّاب موقع “جمار”