ساجدة عبيد: الصوت والجسد والذاكرة.. وفانوس  

ميزر كمال

02 تشرين الثاني 2025

لو جاز أن نرسم لساجدة عبيد ثلاث لحظات زمنية في مسيرتها، لكانت: لحظة التمدد في الفضاء المغلق، زمن الكاسيت والمسجّل وحزب البعث في الثمانينيات والتسعينيات، ولحظة الانتشار الفضائي وسط الفوضى السياسية والأمنية بعد 2003، ثم لحظة التجاوز الرقمي بعد 2018، حيث تحوّلت ساجدة عبيد إلى ظاهرة جمالية عابرة للجماعات العراقية.. مقال عن ساجدة عبيد في ذكرى ولادتها..

في المخيال الإنساني، تشرين الثاني ليس شهراً في التقويم، يبدأ وينتهي في ثلاثين يوماً، إنه أكثر من ذلك، هو زمن للتحول والتجدد، والتأمل في الحنين والغياب، واستدعاء الذاكرة.   

في أوروبا عندما يدخل اليوم الثاني من الشهر، يتراجع الضوء، وينزل الضباب وتتجرد الأشجار من أوراقها، ويتّخذ الفراغ شكله الجمالي، حينها تبدأ طقوس تكريم الموتى، وأرواح الأحبة الغائبة، في واحد من أكثر أيام البشر غرابة في التذكّر الجماعي.  

في هذا اليوم كذلك، تُحوّل الشعوب اللاتينية الذاكرة الجماعية إلى كرنفال للألوان والأزهار والموسيقى، الإنسان في Día de los Muertos لا يتذكر وحسب، إنه يمارس نوعاً من الطقوس ليمد جسراً بين زمنين، زمن الخلود وزمن الفناء.  

نوء الوسمي في المخيال العربي تدخل عندما يدخل تشرين الثاني، إنها فترة زمنية يأتي فيها المطر بعد القيظ، والعشب بعد المحل، هي زمن للجمال والخصب والوفرة، الأرض في نوء الوسمي تتحوّل من النهايات الوشيكة إلى البدايات الجديدة.  

أمّا في العراق، فتشرين الثاني، هو الشهر الذي ولدت فيه ساجدة عبيد. الظاهرة الغنائية التي أعادت تعريف الجسد والذاكرة، والسلطة على هذا الجسد العراقي وهذه الذاكرة العراقية، وحوّلت الغناء من أداء صوتي إلى تجربة جسدية تتجاوز الخطوط الحادة التي حفرتها الجماعة على صخرة التقاليد.   

الجسد  

الجسد في أغاني ساجدة عبيد ليس جسد اللذة فقط؛ إنه جسد الحرب، وجسد الذاكرة، وجسد الانكسار، والجسد المحاصر، إنه الجسد الجماعي العراقي، بكل ما يحمله من ندوب.  

ساجدة لا تغني لكي نرقص فقط، إنها تغني ليتحوّل الرقص إلى خطاب اجتماعي عن الجسد المقموع، الأنثوي تحديداً، في الجماعة التي تفرض “ما يجوز وما لا يجوز” على جسد الفرد.  

ساجدة عبيد حوّلت “ما لا يجوز”، والعيب، في معجم التقاليد العراقية، إلى فن. في مجتمع ينبذ شاربي الكحول في العلن، ويحذفهم بالوصمة، لا يستطيع أحد أن يبكي على “جاسم” الذي يشرب البيرة، أو حتى أن يتحدث عنه، لكنّ ساجدة عبيد لم تجعل هذا المجتمع يقبل الحديث عن “جويسم أبو الغيرة” فقط، وإنما يرقص وهو يكتشف صفات “شرّاب العرگ وبطالة البيرة”.  

كل ما نعرفه عن الجدّات هو وجودهنّ الحكيم والمبارك في البيت، لم يخبرنا أحد عن عادات أخرى للجدّة، لكنّ ساجدة عبيد جاءت لتخبرنا أن عجوز البيت “سكرانة ببطل بيرة”.   

عندما تقول “شگل لأمي من أروح انكسرت الشيشة”، هي لم تكن قلقة من الأمر، ولا من أمها، لأنها ذهبت لتخبرها على كل حال، لكنها كانت قلقة من (الآخر) في صورة أمها، ويمكن وضع الكثير من الكلمات بين القوسين، مثل العائلة، والعشيرة، والمجتمع، والدين، وحالة القلق هذه يمكن تبريرها، لأن ساجدة هي من كسرت الشيشة، لو كان “ساجد” الذي كسرها لما استدعى الأمر كل هذا “الهچع”، ولما حصلنا على أغنية مذهلة.  

ساجدة عبيد تغني خارج حدود “المسموح” به للجسد في الشخصية العراقية، هناك حيث يوجد العار والخطيئة والحرام، وهذه “خطوط حمراء” يصعب حتى الحديث عنها، فضلاً عن الرقص على تخومها الحادة.   

لقد تجاوزت ساجدة عبيد في الجسد العراقي كل هذا التعقيد، وأطلقته حرّاً خفيفاً في الأغنية، الخالية هي الأخرى من التعقيد الموسيقي، يكفي أن ترافق صوتها الخشابة.  

ساجدة هتكت هذا الازدواج العراقي، الورع الاجتماعي في النهار، والشرب والرقص في الليل، أغنيات ساجدة يمكن أن تكون المفتاح الجمالي لقراءة الجسد العراقي بوصفه أحد تجليات الهوية الاجتماعية.  

الجسد المحاصر في البيت والفضاء العام يكسر قيوده في الفضاءات المتسامحة، وهنا تظهر أغاني ساجدة عبيد كأنها مفتاح غريزي لتحريك الجسد، من خلال “الردح والهچع”، لذلك تحضر ساجدة دائماً في المناسبات، وفي الأعراس، وأمام كاميرا الهاتف ضمن الحيز الفردي، حتى لو كان من أجل الجماعة البعيدة خلف الشاشات.   

في أغاني ساجدة عبيد، الجسد العراقي يحاول استعادة سيادته التي سلبتها الجماعة، الجسد العراقي يستعيد حقه في الحركة والفرح والوجود.  

في منتصف كانون الأول 2021، أحيت ساجدة عبيد حفلاً في بغداد، تحدثت حينها وكالة الأسوشييتد برس عن “سحره”، وعن “وقوف الجمهور دفعة واحدة، منجذباً إلى القوة الخام في صوتها”.   

نور الربيعي، طبيبة الأسنان (27 عاماً)، تحدثت للأسوشييتد برس عن حضورها الحفل، وعن سبب حبها لأغنية “انكسرت الشيشة” بالتحديد.   

بالنسبة لنور، أهمية الأغنية تأتي من كونها “تتناول مواضيع ما تزال من المحرمات بالنسبة للنساء في المجتمع العراقي”، لذلك فهذه الأغنية هي المفضلة عند نور، مثلما عند ملايين العراقيين والعراقيات من الذين يشاركون نور حب أغنيات ساجدة عبيد.  

الرصاصة  

في الزمن العراقي الذي انتهى عام 2003، كان صوت ساجدة عبيد لا يقل سحراً عنه الآن، تحيي حفلاتها في مهرجان بابل وفي المدن العراقية، الدولة والمجتمع يصغيان ويرقصان، وكلاهما فضاء مغلق.   

في لقاء على قناة سامراء عام 2022، تتحدث ساجدة عبيد عن “أنيسة”، ابنة شقيقتها، التي كانت ترافقها لتقديم عروض الرقص في حفلاتها، تقول ساجدة إنها كانت تناديها “فانوس” لشدة جمالها، وتحكي أنها ربّتها منذ أن كانت صغيرة.  

فانوس قُتلت أمام ساجدة خلال حفلة أحيتها في مدينة الرمادي، وأصيبت فيها ساجدة برصاصة في البطن، لا تذكر ساجدة عبيد تفاصيل كثيرة عن تلك الحادثة، ولا تحتفظ الصحافة العراقية بأرشيف عنها، لكنها تظهر خطورة تلك البيئة التي كانت تحاول فيها ساجدة عبيد أن تغنّي، وفي كل الحوارات القليلة التي تظهر فيها، تؤكد بلغة شديدة الخجل والاحترام، أنها تغني من أجل الحب بمعناه الإنساني الكبير.   

في 2021، السنة التي غنّت فيها ساجدة عبيد في بغداد، وقع حدث مهم، له صلات بالغناء والجسد العراقي، جماعات دينية ألغت حفلات موسيقية في بغداد، وخرج أتباعها في مظاهرات أمام مدينة السندباد لاند الترفيهية في العاصمة، وكانوا شديدي الوضوح برفض هذه العروض “غير الأخلاقية والتي تتعارض مع الدين”.  

تبعه بعد ذلك قرار حظر الكحول، وموجة متطرفة ضد الجسد العراقي، فيما صار يُعرف بمحاربة “المحتوى الهابط”، وفيه اشتركت الدولة والعشيرة والدين في قمع أي محاولة تعبير خارج “أنساق” المسموح به، وهي نسق الدولة (الانضباط والتعبئة)، ونسق الدين (الحياء والخطيئة)، ونسق العشيرة (العيب والبطولة).  

هذا الضيق الممتد خلق حاجة لاستدعاء “غير المسموح” في المسموح (الفن)، والتواجد الحر في الفضاءات المتسامحة هرباً من الفضاء العام المغلق، واستدعى الرغبة في إعادة تعريف الجسد العراقي مرة أخرى، وكانت ساجدة عبيد أيقونة هذا الاحتجاج، إنها إرادة “أجيبك للدرب گتلك أجيبك”.  

في تقرير الأسوشييتد برس يُوصف الجمهور الذي حضر حفلها ببغداد بأنه “رجال ونساء من مختلف الأعمار والخلفيات الاجتماعية، يتمايلون ويردّدون كلمات أغانيها. بعض النساء ارتدين الحجاب، وأخريات رقصن بأرجل مكشوفة وفساتين ضيّقة قصيرة. جاؤوا من جميع مناطق بغداد، متجاوزين الانقسامات الطائفية التي عذّبت المدينة طويلاً”.  

هذه اللحظة العراقية تشبه لحظة عراقية أخرى، ظهرت في سياق سياسي واجتماعي متشابه من حيث أدوات التحوّل، وهي اللحظة التي ظهرت فيها ساجدة عبيد في الفضاء الفني العراقي، إنها فترة السبعينيات، التي ازدهر فيها إنتاج الريف داخل المدينة، في بغداد على وجه التحديد، المنتج الريفي كان على هيئة أصوات ولهجات وأزياء وخطاب رسمي.  

في هذه الدولة الريعية/البعثية/الريفية الحديثة، كانت المحاولات جديّة حدّ القتل في توحيد الذائقة، بما فيها الذائقة الفنية، وهنا ظهرت ساجدة عبيد، في الفضاءات المسموحة في الدولة والمجتمع، الفضاءات التي تهرب إليها الناس من الأغنية الرسمية، التي صارت تأخذ اللون الزيتوني بسيولة مفزعة.  

التلفزيون والإذاعة لم يكونا تلفزيوناً وإذاعة، كانا أدوات ضبط ثقافي، إنها ساعة السلطة في رأس المواطن، تصحّيه من نومه، وترافقه إلى العمل، وتختار له فيلم السهرة، وتخبره متى عليه أن يطفئ التلفزيون. ورغم هذه الصرامة نجحت ساجدة عبيد في العبور من “الفلتر الرسمي”، لأنها – بالنسبة للسلطة – تقدم “الريف الآمن”، الذي لا يتدخل بالسياسة، ولا بأس في أن يشكو، وينتقد الظواهر الاجتماعية.  

في هذا الهامش سطعت ساجدة عبيد، وتحولت إلى ظاهرة اجتماعية فنية تكبر بموازاة ظواهر “الضبط الثقافي”، ففي كل لحظة عراقية يُمارس فيها هذا الضبط تظهر ساجدة عبيد مثل “نشيج” وطني.  

فانوس  

أحب وأشهر أشكال الرقص صلة بالجسد العراقي هو “الهچع”، وهذا له تفسيراته التاريخية والطقوسية والثقافية، الأرشيف فيه مادة جديرة بالقراءة عن صلة هذا الرقص أو الطقس بزمن سومري ضارب في القدم (طقوس إنانا وتموز). ومع أنها غنت الريفي بكل أشكاله، إلا أن أحب وأشهر أغاني ساجدة عبيد هي أغاني “الهچع”.  

“الهچع”، ليس غناءً، وليس رقصاً، إنه أداء طقوسي – بلا قداسة – للصوت والحركة والذاكرة، مشاهدة ملايين لها وهي تؤدي رقصة “الهچع” في مسرحية “العالم في ليلة” تغري في مقاربتها مع طقوس “الزار” في إفريقيا، لكن “الهچع” ليس لطرد الجن أو الأرواح الشريرة، وليس طقساً للانهيار، إنه أجمل، لأنّ اللحظة “القدسية” فيه ترتبط بالجسد الذي يؤديها وليس بشيء آخر، إله أو جن، إنها لحظة شخصية وفردية حتى في الأداء الجماعي.  

ضمن ملف نادر عن الموسيقى الغجرية العراقية، في مجلة Annals of the Náprstek Museum كتب فاتسلاف كوبيتسا عام 1975، عن “الهچع”، بوصفه فعلاً وجودياً وليس فنياً.   

في ورقة كوبيتسا نرى “الهچع” بوصفه حرفة المهمشين، الذين حُرموا من أدوات العيش الرسمية، وحرفة العراقيين الذين حولوا أجسادهم إلى أدوات موسيقية، إنهم الجماعة التي احترفت العيش من خلال الصوت.  

الجماعة العراقية التي ترقص لكي تعيش فقط، هي أيضاً تمارس فعل احتجاج صامت، إنه مجتمع الإيقاع الموجود خارج حدود الطبقية العراقية، هو ظلٌّ في الريف، وظلٌّ في المدينة.  

“الهچع” هو الرقصة التي كانت النساء تؤديها أمام الرجال مقابل أجر محدد، كانت طقساً لاقتصاد الجسد، و”فانوس”، التي قتلت في حفل ساجدة عبيد في مدينة الرمادي، كانت تجسيداً حزيناً وقاسياً لهذا الطقس الاقتصادي، الذي يحدث مثل عارض من الفرح تؤديه الأجساد المنفية من الدولة وتعريفاتها للمواطنة.   

في اللحظة السبعينية التي دخلت فيها ساجدة عبيد إلى فضاء الفن العراقي، أدخلت الدولة “الهچع” إلى أدوات الضبط الثقافي (التلفزيون والإذاعة)، يلاحظ كوبيتسا أن الدولة اعتمدت على العود بدلاً من الربابة، لأنه آلة “النخبة”، وينعّم “خشونة” الصوت الغجري، ويجعله صالحاً للبث.  

الربابة في ذلك الزمن الريعي الحديث كانت تُصنع من “التنك” غالباً، لا من الخشب، وهذا التحوير هو حداثة قسرية للفقر، فالمعدن يجعل الأداء أكثر خشونة، وهذا لا يناسب اقتصاد الدولة، لذا عدّلت أدوات الفرح.  

أمّا “الخِشْبَة” التي تؤسّس وتشفّر الطاقة الحركية لرقصة “الهچع”، فعلى حد وصف كوبيتسا هي آلة تذكّر الجسد بإيقاعه، حين تضرب بها “بنت الريف”، فهي لا تصنع اللحن، بل تنتزعه من جلدة الطبلة، هذا الجدل الصوتي هو ما يصنع الإيقاع المقاوم، وهذا هو سحر “الهچع”.  

من هذه الجذور نمت أغنيات ساجدة عبيد، وبمرور السنين صار الإيقاع فكرة عن الجسد والذاكرة الشفاهية، وفي كل مرحلة زمنية تنتقل ساجدة برشاقة إلى أدوات تلك المرحلة، مع الحفاظ على الزخم الساحر في صوتها، من المهرجانات والحفلات والأعراس إلى زمن اللحظة الخوارزمية. 

موال “لا تقول من أحبك عيب”، وأغنية “يا هلي الظلّام”، كانا يُشغّلان في أجهزة المسجّل، ويتداولهما الناس في الأعراس والسيارات والحفلات، وتحوّلا بالطاقة الجسدية ذاتها إلى طيف خوارزمي، أنّى مرّ يحفّز على الرقص.   

تيك توك وإنستغرام وفيسبوك، أعادوا تشكيل أغاني ساجدة عبيد من كونها حدثاً اجتماعياً في المكان (عرس أو حفلة) إلى خوارزمية في كل مكان، هذه براعة مطربة بدأت منذ نصف قرن، وما زالت تشبه كثيراً بداياتها، حارة ونديّة.   

لو جاز أن نضع لمسيرة ساجدة عبيد ثلاث مراحل زمنية فستكون: مرحلة التمدد في الفضاء المغلق، وهي مرحلة الكاسيت والمسجّل وحزب البعث في الثمانينيات والتسعينيات. ومرحلة الانتشار الفضائي، التي ترافقت مع الفوضى السياسية والأمنية والطائفية، حيث ظهرت في قنوات فضائية وحفلات بعد 2003. ومرحلة التجاوز الرقمي في زمن السوشال ميديا بعد 2018، وهنا تتحوّل ساجدة عبيد إلى ظاهرة جمالية عابرة للجماعات العراقية.  

دخلت ساجدة عبيد في اقتصاد العاطفة الرقمي، ولم تعد حالة غنائية فقط، بل لحظة تستدعي الجسد، في الرقص، أو الرياضة، أو السخرية، اللغة لم تعد اللهجة العراقية، إنها الآن الإيقاع، و”الهچع” لم يعد حدثاً اجتماعياً يحدث في عرس أو حفلة، لقد صار محتوى رقمياً في بيئة عالمية، تتشارك الثقافة والمعرفة في فضاءات ليست متسامحة وحسب، إنما مفتوحة، وتعيد إنتاج هذه الثقافة والمعرفة باستمرار.   

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في المخيال الإنساني، تشرين الثاني ليس شهراً في التقويم، يبدأ وينتهي في ثلاثين يوماً، إنه أكثر من ذلك، هو زمن للتحول والتجدد، والتأمل في الحنين والغياب، واستدعاء الذاكرة.   

في أوروبا عندما يدخل اليوم الثاني من الشهر، يتراجع الضوء، وينزل الضباب وتتجرد الأشجار من أوراقها، ويتّخذ الفراغ شكله الجمالي، حينها تبدأ طقوس تكريم الموتى، وأرواح الأحبة الغائبة، في واحد من أكثر أيام البشر غرابة في التذكّر الجماعي.  

في هذا اليوم كذلك، تُحوّل الشعوب اللاتينية الذاكرة الجماعية إلى كرنفال للألوان والأزهار والموسيقى، الإنسان في Día de los Muertos لا يتذكر وحسب، إنه يمارس نوعاً من الطقوس ليمد جسراً بين زمنين، زمن الخلود وزمن الفناء.  

نوء الوسمي في المخيال العربي تدخل عندما يدخل تشرين الثاني، إنها فترة زمنية يأتي فيها المطر بعد القيظ، والعشب بعد المحل، هي زمن للجمال والخصب والوفرة، الأرض في نوء الوسمي تتحوّل من النهايات الوشيكة إلى البدايات الجديدة.  

أمّا في العراق، فتشرين الثاني، هو الشهر الذي ولدت فيه ساجدة عبيد. الظاهرة الغنائية التي أعادت تعريف الجسد والذاكرة، والسلطة على هذا الجسد العراقي وهذه الذاكرة العراقية، وحوّلت الغناء من أداء صوتي إلى تجربة جسدية تتجاوز الخطوط الحادة التي حفرتها الجماعة على صخرة التقاليد.   

الجسد  

الجسد في أغاني ساجدة عبيد ليس جسد اللذة فقط؛ إنه جسد الحرب، وجسد الذاكرة، وجسد الانكسار، والجسد المحاصر، إنه الجسد الجماعي العراقي، بكل ما يحمله من ندوب.  

ساجدة لا تغني لكي نرقص فقط، إنها تغني ليتحوّل الرقص إلى خطاب اجتماعي عن الجسد المقموع، الأنثوي تحديداً، في الجماعة التي تفرض “ما يجوز وما لا يجوز” على جسد الفرد.  

ساجدة عبيد حوّلت “ما لا يجوز”، والعيب، في معجم التقاليد العراقية، إلى فن. في مجتمع ينبذ شاربي الكحول في العلن، ويحذفهم بالوصمة، لا يستطيع أحد أن يبكي على “جاسم” الذي يشرب البيرة، أو حتى أن يتحدث عنه، لكنّ ساجدة عبيد لم تجعل هذا المجتمع يقبل الحديث عن “جويسم أبو الغيرة” فقط، وإنما يرقص وهو يكتشف صفات “شرّاب العرگ وبطالة البيرة”.  

كل ما نعرفه عن الجدّات هو وجودهنّ الحكيم والمبارك في البيت، لم يخبرنا أحد عن عادات أخرى للجدّة، لكنّ ساجدة عبيد جاءت لتخبرنا أن عجوز البيت “سكرانة ببطل بيرة”.   

عندما تقول “شگل لأمي من أروح انكسرت الشيشة”، هي لم تكن قلقة من الأمر، ولا من أمها، لأنها ذهبت لتخبرها على كل حال، لكنها كانت قلقة من (الآخر) في صورة أمها، ويمكن وضع الكثير من الكلمات بين القوسين، مثل العائلة، والعشيرة، والمجتمع، والدين، وحالة القلق هذه يمكن تبريرها، لأن ساجدة هي من كسرت الشيشة، لو كان “ساجد” الذي كسرها لما استدعى الأمر كل هذا “الهچع”، ولما حصلنا على أغنية مذهلة.  

ساجدة عبيد تغني خارج حدود “المسموح” به للجسد في الشخصية العراقية، هناك حيث يوجد العار والخطيئة والحرام، وهذه “خطوط حمراء” يصعب حتى الحديث عنها، فضلاً عن الرقص على تخومها الحادة.   

لقد تجاوزت ساجدة عبيد في الجسد العراقي كل هذا التعقيد، وأطلقته حرّاً خفيفاً في الأغنية، الخالية هي الأخرى من التعقيد الموسيقي، يكفي أن ترافق صوتها الخشابة.  

ساجدة هتكت هذا الازدواج العراقي، الورع الاجتماعي في النهار، والشرب والرقص في الليل، أغنيات ساجدة يمكن أن تكون المفتاح الجمالي لقراءة الجسد العراقي بوصفه أحد تجليات الهوية الاجتماعية.  

الجسد المحاصر في البيت والفضاء العام يكسر قيوده في الفضاءات المتسامحة، وهنا تظهر أغاني ساجدة عبيد كأنها مفتاح غريزي لتحريك الجسد، من خلال “الردح والهچع”، لذلك تحضر ساجدة دائماً في المناسبات، وفي الأعراس، وأمام كاميرا الهاتف ضمن الحيز الفردي، حتى لو كان من أجل الجماعة البعيدة خلف الشاشات.   

في أغاني ساجدة عبيد، الجسد العراقي يحاول استعادة سيادته التي سلبتها الجماعة، الجسد العراقي يستعيد حقه في الحركة والفرح والوجود.  

في منتصف كانون الأول 2021، أحيت ساجدة عبيد حفلاً في بغداد، تحدثت حينها وكالة الأسوشييتد برس عن “سحره”، وعن “وقوف الجمهور دفعة واحدة، منجذباً إلى القوة الخام في صوتها”.   

نور الربيعي، طبيبة الأسنان (27 عاماً)، تحدثت للأسوشييتد برس عن حضورها الحفل، وعن سبب حبها لأغنية “انكسرت الشيشة” بالتحديد.   

بالنسبة لنور، أهمية الأغنية تأتي من كونها “تتناول مواضيع ما تزال من المحرمات بالنسبة للنساء في المجتمع العراقي”، لذلك فهذه الأغنية هي المفضلة عند نور، مثلما عند ملايين العراقيين والعراقيات من الذين يشاركون نور حب أغنيات ساجدة عبيد.  

الرصاصة  

في الزمن العراقي الذي انتهى عام 2003، كان صوت ساجدة عبيد لا يقل سحراً عنه الآن، تحيي حفلاتها في مهرجان بابل وفي المدن العراقية، الدولة والمجتمع يصغيان ويرقصان، وكلاهما فضاء مغلق.   

في لقاء على قناة سامراء عام 2022، تتحدث ساجدة عبيد عن “أنيسة”، ابنة شقيقتها، التي كانت ترافقها لتقديم عروض الرقص في حفلاتها، تقول ساجدة إنها كانت تناديها “فانوس” لشدة جمالها، وتحكي أنها ربّتها منذ أن كانت صغيرة.  

فانوس قُتلت أمام ساجدة خلال حفلة أحيتها في مدينة الرمادي، وأصيبت فيها ساجدة برصاصة في البطن، لا تذكر ساجدة عبيد تفاصيل كثيرة عن تلك الحادثة، ولا تحتفظ الصحافة العراقية بأرشيف عنها، لكنها تظهر خطورة تلك البيئة التي كانت تحاول فيها ساجدة عبيد أن تغنّي، وفي كل الحوارات القليلة التي تظهر فيها، تؤكد بلغة شديدة الخجل والاحترام، أنها تغني من أجل الحب بمعناه الإنساني الكبير.   

في 2021، السنة التي غنّت فيها ساجدة عبيد في بغداد، وقع حدث مهم، له صلات بالغناء والجسد العراقي، جماعات دينية ألغت حفلات موسيقية في بغداد، وخرج أتباعها في مظاهرات أمام مدينة السندباد لاند الترفيهية في العاصمة، وكانوا شديدي الوضوح برفض هذه العروض “غير الأخلاقية والتي تتعارض مع الدين”.  

تبعه بعد ذلك قرار حظر الكحول، وموجة متطرفة ضد الجسد العراقي، فيما صار يُعرف بمحاربة “المحتوى الهابط”، وفيه اشتركت الدولة والعشيرة والدين في قمع أي محاولة تعبير خارج “أنساق” المسموح به، وهي نسق الدولة (الانضباط والتعبئة)، ونسق الدين (الحياء والخطيئة)، ونسق العشيرة (العيب والبطولة).  

هذا الضيق الممتد خلق حاجة لاستدعاء “غير المسموح” في المسموح (الفن)، والتواجد الحر في الفضاءات المتسامحة هرباً من الفضاء العام المغلق، واستدعى الرغبة في إعادة تعريف الجسد العراقي مرة أخرى، وكانت ساجدة عبيد أيقونة هذا الاحتجاج، إنها إرادة “أجيبك للدرب گتلك أجيبك”.  

في تقرير الأسوشييتد برس يُوصف الجمهور الذي حضر حفلها ببغداد بأنه “رجال ونساء من مختلف الأعمار والخلفيات الاجتماعية، يتمايلون ويردّدون كلمات أغانيها. بعض النساء ارتدين الحجاب، وأخريات رقصن بأرجل مكشوفة وفساتين ضيّقة قصيرة. جاؤوا من جميع مناطق بغداد، متجاوزين الانقسامات الطائفية التي عذّبت المدينة طويلاً”.  

هذه اللحظة العراقية تشبه لحظة عراقية أخرى، ظهرت في سياق سياسي واجتماعي متشابه من حيث أدوات التحوّل، وهي اللحظة التي ظهرت فيها ساجدة عبيد في الفضاء الفني العراقي، إنها فترة السبعينيات، التي ازدهر فيها إنتاج الريف داخل المدينة، في بغداد على وجه التحديد، المنتج الريفي كان على هيئة أصوات ولهجات وأزياء وخطاب رسمي.  

في هذه الدولة الريعية/البعثية/الريفية الحديثة، كانت المحاولات جديّة حدّ القتل في توحيد الذائقة، بما فيها الذائقة الفنية، وهنا ظهرت ساجدة عبيد، في الفضاءات المسموحة في الدولة والمجتمع، الفضاءات التي تهرب إليها الناس من الأغنية الرسمية، التي صارت تأخذ اللون الزيتوني بسيولة مفزعة.  

التلفزيون والإذاعة لم يكونا تلفزيوناً وإذاعة، كانا أدوات ضبط ثقافي، إنها ساعة السلطة في رأس المواطن، تصحّيه من نومه، وترافقه إلى العمل، وتختار له فيلم السهرة، وتخبره متى عليه أن يطفئ التلفزيون. ورغم هذه الصرامة نجحت ساجدة عبيد في العبور من “الفلتر الرسمي”، لأنها – بالنسبة للسلطة – تقدم “الريف الآمن”، الذي لا يتدخل بالسياسة، ولا بأس في أن يشكو، وينتقد الظواهر الاجتماعية.  

في هذا الهامش سطعت ساجدة عبيد، وتحولت إلى ظاهرة اجتماعية فنية تكبر بموازاة ظواهر “الضبط الثقافي”، ففي كل لحظة عراقية يُمارس فيها هذا الضبط تظهر ساجدة عبيد مثل “نشيج” وطني.  

فانوس  

أحب وأشهر أشكال الرقص صلة بالجسد العراقي هو “الهچع”، وهذا له تفسيراته التاريخية والطقوسية والثقافية، الأرشيف فيه مادة جديرة بالقراءة عن صلة هذا الرقص أو الطقس بزمن سومري ضارب في القدم (طقوس إنانا وتموز). ومع أنها غنت الريفي بكل أشكاله، إلا أن أحب وأشهر أغاني ساجدة عبيد هي أغاني “الهچع”.  

“الهچع”، ليس غناءً، وليس رقصاً، إنه أداء طقوسي – بلا قداسة – للصوت والحركة والذاكرة، مشاهدة ملايين لها وهي تؤدي رقصة “الهچع” في مسرحية “العالم في ليلة” تغري في مقاربتها مع طقوس “الزار” في إفريقيا، لكن “الهچع” ليس لطرد الجن أو الأرواح الشريرة، وليس طقساً للانهيار، إنه أجمل، لأنّ اللحظة “القدسية” فيه ترتبط بالجسد الذي يؤديها وليس بشيء آخر، إله أو جن، إنها لحظة شخصية وفردية حتى في الأداء الجماعي.  

ضمن ملف نادر عن الموسيقى الغجرية العراقية، في مجلة Annals of the Náprstek Museum كتب فاتسلاف كوبيتسا عام 1975، عن “الهچع”، بوصفه فعلاً وجودياً وليس فنياً.   

في ورقة كوبيتسا نرى “الهچع” بوصفه حرفة المهمشين، الذين حُرموا من أدوات العيش الرسمية، وحرفة العراقيين الذين حولوا أجسادهم إلى أدوات موسيقية، إنهم الجماعة التي احترفت العيش من خلال الصوت.  

الجماعة العراقية التي ترقص لكي تعيش فقط، هي أيضاً تمارس فعل احتجاج صامت، إنه مجتمع الإيقاع الموجود خارج حدود الطبقية العراقية، هو ظلٌّ في الريف، وظلٌّ في المدينة.  

“الهچع” هو الرقصة التي كانت النساء تؤديها أمام الرجال مقابل أجر محدد، كانت طقساً لاقتصاد الجسد، و”فانوس”، التي قتلت في حفل ساجدة عبيد في مدينة الرمادي، كانت تجسيداً حزيناً وقاسياً لهذا الطقس الاقتصادي، الذي يحدث مثل عارض من الفرح تؤديه الأجساد المنفية من الدولة وتعريفاتها للمواطنة.   

في اللحظة السبعينية التي دخلت فيها ساجدة عبيد إلى فضاء الفن العراقي، أدخلت الدولة “الهچع” إلى أدوات الضبط الثقافي (التلفزيون والإذاعة)، يلاحظ كوبيتسا أن الدولة اعتمدت على العود بدلاً من الربابة، لأنه آلة “النخبة”، وينعّم “خشونة” الصوت الغجري، ويجعله صالحاً للبث.  

الربابة في ذلك الزمن الريعي الحديث كانت تُصنع من “التنك” غالباً، لا من الخشب، وهذا التحوير هو حداثة قسرية للفقر، فالمعدن يجعل الأداء أكثر خشونة، وهذا لا يناسب اقتصاد الدولة، لذا عدّلت أدوات الفرح.  

أمّا “الخِشْبَة” التي تؤسّس وتشفّر الطاقة الحركية لرقصة “الهچع”، فعلى حد وصف كوبيتسا هي آلة تذكّر الجسد بإيقاعه، حين تضرب بها “بنت الريف”، فهي لا تصنع اللحن، بل تنتزعه من جلدة الطبلة، هذا الجدل الصوتي هو ما يصنع الإيقاع المقاوم، وهذا هو سحر “الهچع”.  

من هذه الجذور نمت أغنيات ساجدة عبيد، وبمرور السنين صار الإيقاع فكرة عن الجسد والذاكرة الشفاهية، وفي كل مرحلة زمنية تنتقل ساجدة برشاقة إلى أدوات تلك المرحلة، مع الحفاظ على الزخم الساحر في صوتها، من المهرجانات والحفلات والأعراس إلى زمن اللحظة الخوارزمية. 

موال “لا تقول من أحبك عيب”، وأغنية “يا هلي الظلّام”، كانا يُشغّلان في أجهزة المسجّل، ويتداولهما الناس في الأعراس والسيارات والحفلات، وتحوّلا بالطاقة الجسدية ذاتها إلى طيف خوارزمي، أنّى مرّ يحفّز على الرقص.   

تيك توك وإنستغرام وفيسبوك، أعادوا تشكيل أغاني ساجدة عبيد من كونها حدثاً اجتماعياً في المكان (عرس أو حفلة) إلى خوارزمية في كل مكان، هذه براعة مطربة بدأت منذ نصف قرن، وما زالت تشبه كثيراً بداياتها، حارة ونديّة.   

لو جاز أن نضع لمسيرة ساجدة عبيد ثلاث مراحل زمنية فستكون: مرحلة التمدد في الفضاء المغلق، وهي مرحلة الكاسيت والمسجّل وحزب البعث في الثمانينيات والتسعينيات. ومرحلة الانتشار الفضائي، التي ترافقت مع الفوضى السياسية والأمنية والطائفية، حيث ظهرت في قنوات فضائية وحفلات بعد 2003. ومرحلة التجاوز الرقمي في زمن السوشال ميديا بعد 2018، وهنا تتحوّل ساجدة عبيد إلى ظاهرة جمالية عابرة للجماعات العراقية.  

دخلت ساجدة عبيد في اقتصاد العاطفة الرقمي، ولم تعد حالة غنائية فقط، بل لحظة تستدعي الجسد، في الرقص، أو الرياضة، أو السخرية، اللغة لم تعد اللهجة العراقية، إنها الآن الإيقاع، و”الهچع” لم يعد حدثاً اجتماعياً يحدث في عرس أو حفلة، لقد صار محتوى رقمياً في بيئة عالمية، تتشارك الثقافة والمعرفة في فضاءات ليست متسامحة وحسب، إنما مفتوحة، وتعيد إنتاج هذه الثقافة والمعرفة باستمرار.