مسيحيو العراق.. رحلة تمثيل سياسي محفوفة بالتقويض
12 تشرين الأول 2025
يعود وجود المسيحيين في العراق إلى القرن الميلادي الأول، وهم اليوم يحصلون على تمثيل في البرلمان بمقاعد "كوتا"، لكن حتى هذه المقاعد تخضع للاستقطاب والتنازع.
في عراق أنهكته الحروب والطوائف وتراكمات العقود، لا تأتي الانتخابات بوصفها لحظة ديمقراطية محضة، بل غالباً ما تمثّل إعلاناً جديداً لبداية سباق لا يخلو من الخديعة، والتفافاً آخر حول صناديق يُفترض بها أن تعكس إرادة ناخب حر، لكنها كثيراً ما تعبّر عن إرادة أحزاب تتقن توزيع الأدوار، وتجيد إعادة تدوير الوجوه، وإنتاج التوازنات على مقاس نفوذها.
وفي ظل العدّ التنازلي للانتخابات البرلمانية المقررة في 11 تشرين الثاني 2025، يُكرَّس هذا المشهد بصورة أوضح، فالكتل السياسية العراقية، الكبيرة والصغيرة، تدخل سباقاً محموماً نحو كسب المقاعد البرلمانية، لا حباً بالتشريع، بل سعياً وراء موطئ قدم أوسع في دوائر الوزارات وهيئات الدولة وتشكيلاتها.
وهكذا، يصير البرلمان بوابة للمغانم، وتتحوّل الانتخابات إلى وسيلة لا غاية.
وخلف هذا المشهد التقليدي، ثمة صراع أكثر خفاء، لكنه لا يقل ضراوة. إنه صراع على “كوتا الأقليات”، وتحديداً “كوتا المسيحيين”، التي تتضمن -وفقاً لقانون الانتخابات- خمسة مقاعد برلمانية موزعة بين بغداد ونينوى وكركوك ودهوك وأربيل.
ورغم أنّ هذه المقاعد لا تتجاوز 1.5 بالمئة من مجمل عدد مقاعد البرلمان، إلا أنّها تشكّل في ميزان القوى باباً سياسياً مهماً، تستثمره الكتل الكبرى لتوسيع نفوذها وتثبيت تحالفاتها، حتى لو كان ذلك على حساب استقلالية المكوّن الذي يُفترض أن تعبّر عنه تلك الكوتا.
لم ينجح قانون الانتخابات العراقي، منذ ما بعد 2003، في تخليص مفهوم التمثيل البرلماني من شبح الطائفية والمكوناتية، بل على العكس، ترسّخ هذا المفهوم بقوة من خلال القرار التشريعي رقم 44 لسنة 2008، وتحديداً مادته السادسة، التي شرعنت “المحاصصة” تحت ذريعة “تنفيذ المتفق عليه من مطالب القوائم السياسية في أجهزة الدولة”.

ورغم أن المحكمة الاتحادية العليا أبطلت هذه المادة بقرار واضح في جلستها بتاريخ 14 تشرين الأول 2019، إلا أنّ آثارها بقيت حيّة في قوانين الانتخابات، وتوزيع المناصب، وحتى تمثيل الأقليات.
وجود قديم
الحديث عن المسيحيين في العراق لا يعني استحضار طائفة أو مكون فرعي، بل هو حديث عن واحدة من أقدم الجماعات الدينية في البلاد، حيث يعود وجودهم إلى القرن الميلادي الأول، إثر الحملة التبشيرية التي قادها مار آداي في بلاد ما بين النهرين وبلاد فارس وسوريا، والتي أثمرت عن تأسيس تلميذه مار ماري لكنيسة المشرق في المدائن، عاصمة الدولة الفارسية، وقد وثّق هذا الوجود العميق المؤرخ رفائيل بابو إسحاق في كتابه “تاريخ نصارى العراق.. منذ انتشار النصرانية في الأقطار العراقية إلى يومنا”، الصادر عام 1948، بمطبعة المنصور في بغداد.
ولم يكن تواجد المسيحيين بكثافة في شمال العراق وليد ظرف طارئ أو تحول عابر، بل هو انعكاس تراكمي لمسار طويل من البحث عن النجاة وسط بيئة سياسية واجتماعية مضطربة، فقد منحت الطبيعة الجبلية الوعرة لتلك المناطق -في دهوك وأربيل والسليمانية ونينوى- شكلاً من الحصانة الجغرافية، التي قلصت قدرة المعتدين على الوصول، ووفرت ملاذاً طبيعياً من موجات الاستهداف والهجمات التي واجهها المسيحيون على مر العصور.
لقد كانت الجبال، بوعورتها ومناعتها، حليفاً غير معلن للمجتمعات المسيحية، إذ حالت دون تمدد حملات الإقصاء، وحفظت القرى من الزوال، وصارت تشكّل حزام أمان حافظ على نبضها وإن تقلّص عددها، وهكذا، لم يكن الشمال مجرد خيار للسكن، بل للبقاء.
وقد واجه المسيحيون في العراق تحديات جسام منذ لحظة تشكّل حضورهم على أرضه، وتعرضوا عبر الأزمنة المتلاحقة لسلسلة من الهجمات، التي لم تكن محصورة بجهة أو حقبة واحدة، بل تباينت في طبيعتها ودوافعها وأدواتها.
ففي حين اتخذ بعضها طابعاً دينياً متعصباً، جاء بعضها الآخر بدافع سياسي، هدفه تحجيم التنوع وفرض هوية أحادية على المجال العام.

وقد ظلّ هذا التهديد قائماً حتى في أوقات الاستقرار الظاهري، إذ لم يكن غريباً أن يتحول التعايش إلى هشاشة، والضمانات إلى أوهام، في لحظات التحول أو الفوضى.
ومع كل موجة استهداف، كانت أعداد كبيرة من المسيحيين تغادر نحو الشتات، فيما بقي منهم من صمد أمام العنف.
ومنذ بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة، بدأت الإحصاءات السكانية تكشف ملامح التوزيع الديني والعرقي في البلاد، وكان للمسيحيين حضور لافت في تلك البيانات الرسمية.
في أول تعداد سكاني أُجري عام 1927، بلغ عددهم نحو 88 ألف نسمة، ثم ارتفع إلى 97 ألف نسمة في إحصاء 1934، ليقفز بعدها إلى أكثر من 149 ألفاً في تعداد 1947، قبل أن يتجاوز 204 آلاف نسمة في إحصاء عام 1957، من أصل عدد سكان إجمالي يبلغ نحو ستة ملايين ومئتي ألف، بنسبة تُقدر بـ 3.24 في المئة من مجموع السكان آنذاك.
لكن ما يلفت الانتباه في هذه الأرقام ليس فقط تصاعدها التدريجي، بل ما تعكسه من استقرار ديموغرافي نسبي لهذا المكون خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهي فترة لم تكن خالية من التحديات، ولكنها سمحت، نسبياً، بنموه الطبيعي اجتماعياً وثقافياً، وتعزيزه لموقعه بوصفه الشريحة الأوسع بين أتباع الديانات غير الإسلامية.
كان هذا الحضور الإحصائي دليلاً على تماسك مجتمعي لم يُترجم بالضرورة إلى تمثيل سياسي متكافئ، لكنه أرسى أرضية رقمية تؤكد أن المسيحيين لم يكونوا يوماً على الهامش، بل كانوا رقماً فاعلاً في البنية السكانية للعراق، قبل أن تبدأ موجات التراجع العددي الكبرى في العقود التالية.
ثاني شريحة
رغم أن عدد المسيحيين في العراق لم يكن يوماً منافساً للأغلبية المسلمة، إلا أن مكانتهم بين أتباع الديانات الأخرى بقيت متقدمة، إذ حافظوا على كونهم النسبة الكبرى بين أبناء الأقليات الدينية، متجاوزين بذلك أعداد الصابئة المندائيين، والإيزيديين، واليهود، وغيرهم من المكونات الدينية الأصغر.
هذه المكانة، وإن بدت رقمية في ظاهرها، إلا أنها تحمل في عمقها دلالة سياسية واجتماعية وثقافية عميقة، لأنها تنسف الرواية التي اختزلت المسيحيين في زاوية رمزية أو تمثيل شكلي.
كان المسيحيون الشريحة الثانية في البلاد بعد المسلمين، ليس فقط من حيث التعداد، بل من حيث الأثر، والمشاركة في النسيج الوطني، والمساهمة في بناء الدولة.
وهذه المرتبة التي احتلوها لم تكن مجرد نتيجة طبيعية لنمو سكاني، بل ثمرة حضور مدني نشط، ترك بصماته في الثقافة والتعليم والصحافة والاقتصاد.

ومع ذلك، لم تُترجم هذه المرتبة إلى تمثيل سياسي أو إداري يعادل وزنهم التاريخي والاجتماعي، بل ظلت الدولة -في نسخها المتعاقبة- تعاملهم على أساس رمزي، تارة بإدماجهم شكلياً، وأخرى بإقصائهم واقعياً، وبين هذا وذاك، بقي المسيحيون يتمسكون بمكانتهم الأصلية بوصفهم مكوناً فاعلاً لا تابعاً، ورقماً وازناً لا تفصيلاً ثانوياً.
ولم يكن الحضور المسيحي في الحياة العامة العراقية مقتصراً على النواحي الاجتماعية والثقافية، بل تعداه إلى ميدان السياسة منذ المراحل المبكرة من تاريخ الدولة، حتى في ظل الحكم العثماني، فقد مثّل داود أفندي يوسفاني، السياسي المسيحي المولود في الموصل عام 1854، حلقة مبكرة من حلقات الوعي السياسي للمسيحيين، وتجسيداً حياً لانخراطهم في المشهد العام رغم تعقيداته الطائفية والإدارية.
تدرج يوسفاني في مسيرته المهنية من التعليم إلى القضاء، ثم ارتقى ليكون نائباً عن الموصل في “مجلس المبعوثان العثماني” عقب انتخابات عام 1908، وهو المجلس الذي كان يُعد ذروة التمثيل النيابي في الدولة العثمانية آنذاك، وقد بقي عضواً فيه حتى عام 1914.
لم يكن دخول يوسفاني إلى المجلس مجرد استثناء فردي، بل علامة على وعي سياسي متقدم لدى مكون اختار المشاركة بدلاً من العزلة، والعمل من داخل البنية السياسية القائمة لا من خارجها.
كما عكس ذلك التمثيل نوعاً من الاعتراف الرمزي بمكانة المسيحيين، ولو على نحو محدود، في تركيبة المجالس المنتخبة آنذاك.
ورغم الإقصاء البنيوي في سياسة الدولة العثمانية تجاه الأقليات، فإن هذا التمثيل كشف عن جذر تاريخي للمشاركة المسيحية، ظل حياً في الذاكرة السياسية حتى بعد تأسيس الدولة العراقية.
بعد إعلان الانتداب البريطاني على العراق في 25 نيسان 1920، بدأت تتشكل ملامح الدولة الحديثة، وسط حراك شعبي واسع في بغداد.
خرجت جموع غفيرة تطالب بعقد مؤتمر وطني عراقي يحدد شكل الحكم في البلاد، ويقرّ الحقوق والحريات، ويلغي الأحكام العرفية، وينهي الحكم البريطاني، وقد تبلورت هذه المطالب لاحقاً في ثورة العشرين، التي غيّرت مسار التاريخ العراقي.
وفي خضم هذه الأحداث، صدرت الإرادة الملكية، يوم 19 تشرين الأول 1922، بتشكيل المجلس التأسيسي العراقي، الذي انعقد لأول مرة يوم 27 آذار 1924، بحضور 100 عضو، وكان الملك فيصل الأول حاضراً، حيث ألقى خطاباً رسمياً شدد فيه على ضرورة تشريع الدستور وقانون انتخاب النواب.
ورغم بعض الإخفاقات السياسية، إلا أن المجلس نجح في إقرار القانون الأساسي العراقي لسنة 1925، الذي نص في مادته 36 على ما يلي: “يتألف مجلس النواب بالانتخاب بنسبة نائب واحد عن كل عشرين ألف نسمة من الذكور”. ونصت المادة 37 على ما يلي: “تُعين طريقة انتخاب النواب بقانون خاص، يراعى فيه أصول التصويت السري، ووجوب تمثيل الأقليات غير الإسلامية”.
وهكذا، حصل المسيحيون على أربعة مقاعد نيابية، اثنان عن الموصل، وواحد عن بغداد، وآخر عن البصرة، في أول تجسيد دستوري للتمثيل النيابي لمكون غير مسلم في تاريخ العراق المعاصر.
عودة خجولة
مع إسقاط النظام الملكي في 14 تموز 1958، دخل العراق مرحلة جديدة، حملت شعارات التحرر الوطني، والعدالة الاجتماعية، والانفتاح، إلا أن السنوات الخمس الأولى من النظام الجمهوري شهدت انقساماً حاداً داخل صفوف المكون المسيحي، واضطرابات أمنية، واستهدافاً غير مباشر لبعض رموزه، ما ساهم في إضعاف تمثيلهم السياسي، وانكماش تأثيرهم النيابي.
لم يكن النظام الجمهوري، خاصة في بداياته، مؤمناً بالتعددية السياسية أو التمثيل المتوازن للمكونات، بل كان يكرّس المركزية في اتخاذ القرار، والاعتماد على الخطابات الجماهيرية، وإقصاء الخصوم.
في هذه البيئة، تضاءل الصوت المسيحي في الحياة السياسية، ولم ينجح في الحفاظ على ما كان له من تمثيل رمزي خلال العهد الملكي.
وخلال حقبة حزب البعث (1968 – 2003)، خضع التمثيل المسيحي لرقابة أمنية شديدة، فالنظام الحاكم كان يُخضع كل المكونات لآليات مراقبة دقيقة، ولم يكن يسمح بظهور صوت مسيحي مستقل داخل البرلمان أو الحكومة، بل كان يحرص على تقديم بعض الشخصيات المسيحية بوصفها “واجهة حضارية” للنظام، ضمن سياسة الدعاية لا أكثر.
في نيسان 2003، سقط النظام، وسقطت معه بنية الدولة المركزية، لتنهض على أنقاضه منظومة سياسية جديدة بمرجعية طائفية وقومية صريحة.
وفي تموز من العام ذاته، أُعلن تشكيل “مجلس الحكم الانتقالي” المكون من 25 عضواً، ضم مسيحياً واحداً فقط، هو يونادم كنا، في تمثيل بدا أقرب إلى مجاملة سياسية منه إلى تمثيل عادل لمكون تاريخي.
ومع إقرار الدستور العراقي الجديد عام 2005، ظنّ كثيرون أن العراق يخطو نحو الدولة المدنية القائمة على المواطنة، فقد نصّت المادة 14 من الدستور على أن “العراقيين متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو القومية أو الدين أو المذهب”. كما أكدت المادة 20 أن “للمواطنين رجالاً ونساء حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية، بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشيح”.

غير أن المادة 49/أولاً جاءت لتنسف كل ما قبلها، إذ نصّت على ما يلي: “يتكون مجلس النواب من عدد من الأعضاء بنسبة مقعد واحد لكل مئة ألف نسمة من نفوس العراق يمثلون الشعب العراقي بأكمله، ويتم انتخابهم بطريق الاقتراع العام السري المباشر، ويراعى تمثيل سائر مكونات الشعب فيه”، وهي عبارة ضبابية، فتحت الباب أمام ترسيخ “الكوتا” الدينية والقومية، وتحويل الأقليات إلى “حصص سياسية” توزع بين الكتل.
وفي قوانين الانتخابات اللاحقة، خصوصاً قانون رقم 4 لسنة 2023، (التعديل الثالث لقانون انتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات رقم 12 لسنة 2018)، تم تثبيت عدد مقاعد كوتا المسيحيين عند خمسة مقاعد فقط، موزعة على بغداد ونينوى وكركوك وأربيل ودهوك، في تجاهل واضح لوجودهم في محافظات أخرى.
صراع على الـ”كوتا”
لم تكن الكوتا المسيحية في البرلمان العراقي بمعزل عن الاستقطاب السياسي الذي هيمن على البلاد بعد 2003، بل تحولت في لحظة ما إلى ساحة تنازع مفتوحة بين الكنيسة، وبعض الشخصيات السياسية، والأحزاب المتنفذة ذات الأجندات الأوسع من حدود المكون ذاته.
ففي تصريح ناري، خرج الكاردينال لويس ساكو، بطريرك الكلدان في العراق والعالم، عن صمته، متهماً زعيم “حركة بابليون”، ريان الكلداني، بـ”الاستيلاء على مقاعد الكوتا المسيحية”، و”السطو على وزارة الهجرة والمهجرين بوصفها مخصصة للمكون المسيحي”.
ولم يتوقف ساكو عند هذا الحد، بل اتهم الكلداني بمحاولة السيطرة على الوقف المسيحي وأملاك المسيحيين في بغداد ونينوى وسهل نينوى، متهماً إياه أيضاً بـ”شراء رجال الدين المسيحيين بمساعدة امرأة وضعها في منصب وزير”، في إشارة إلى وزيرة الهجرة إيفان فائق يعقوب.
ولم يتأخر رد ريان الكلداني، إذ قال في بيان رسمي: “طالعنا بأسف واستغراب شديدين الرسالة المفتوحة رقم 160، بتاريخ 15 تموز 2023، التي وجهها البطريرك لويس ساكو إلى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والشعب المسيحي والعراقي، يعلن فيها انسحابه من المقر البطريركي في بغداد، ولجوئه إلى دير في إقليم كردستان، هرباً من مواجهة القضاء العراقي في قضايا وُجّهت له”.
وأضاف الكلداني “نحن حركة سياسية ولسنا كتائب، ونشارك في العملية السياسية، ونحن جزء من ائتلاف إدارة الدولة. قرار سحب المرسوم منه هو قرار صادر عن رئاسة الجمهورية، وليس عنا، وذلك لتعديل وضع دستوري خاطئ”.
وكانت رئاسة الجمهورية قد أصدرت في السابع من تموز 2023، بياناً توضيحياً، أكدت فيه أن سحب المرسوم الجمهوري رقم 147 لسنة 2013، الخاص بتعيين الكاردينال ساكو بطريركاً ومتولياً على أوقاف الطائفة، لا يمس مكانته الدينية، لأنه معين من الكرسي الرسولي وليس بواسطة مرسوم رسمي.
وأضاف البيان أن المرسوم السابق صدر دون سند قانوني، وأن رؤساء طوائف أخرى طالبوا بإصدار مراسيم مماثلة، ما دفع الرئاسة إلى إلغائه لتصحيح الوضع.
أداة تفاوض
لا تقتصر أزمة كوتا المسيحيين على الشبهات حول مصادرتها من قبل أحزاب متنفذة، بل تتعداها إلى حالات إقصاء مباشرة لمرشحين فازوا بأصوات الناخبين المسيحيين.
في انتخابات مجالس المحافظات لعام 2023، فاز المرشح المسيحي فاهرام هايك بمقعد مجلس محافظة البصرة بعد حصوله على 132 صوتاً من الناخبين المسيحيين، لكن مفوضية الانتخابات استبعدته لاحقاً، وعينت بدلاً منه مرشحاً عن حركة بابليون لم يحصل سوى على 43 صوتاً، بزعم شمول الأول بإجراءات هيئة المساءلة والعدالة.
وقد أثار هذا القرار موجة استنكار، خاصة وأن الإجراءات القانونية تنص على ضرورة فحص المرشحين قبل موعد الانتخابات وليس بعدها.
وفي مؤتمر صحفي عقده في البصرة، قال هايك: “أنا لم أكن بعثياً، كنت مؤيداً أثناء الدراسة الثانوية، ونصيراً في الجامعة، مثل غالبية الطلبة العراقيين آنذاك. لم أنتمِ إلى الحزب تنظيمياً، ولم أُمنح أي منصب أو ترقية بسببه”.
واستشهد بوثيقة صادرة من الشركة العامة لموانئ العراق، تحيل 112 موظفاً إلى التقاعد بسبب انتمائهم السابق بدرجة “عضو فرقة فما فوق”، دون أن يكون اسمه بينهم، ما يبرئه قانونياً.

ورغم هذه الحجج استمر قرار الإقصاء، ما أعاد إلى الواجهة تساؤلات بشأن مدى استقلالية المفوضية، ومدى تأثير القوى السياسية في قراراتها، خاصة في المناطق التي تُعد فيها كوتا الأقليات محط أطماع الكتل.
ومع تصاعد هذه المخاوف، يجد كثير من أبناء المكون المسيحي أنفسهم في مواجهة واقع سياسي يشعرهم بالتهميش والإقصاء، ليس من المناصب فقط، بل من التمثيل العادل أيضاً.
يقول الصحفي والمحلل السياسي باسل بولص: “إن عدد المسيحيين في العراق قبل عام 2003، كان يفوق مليوناً ونصف مليون نسمة، وكان في بغداد وحدها أكثر من 500 ألف نسمة، واليوم لا نبالغ إذا قلنا إننا تحوّلنا إلى مكوّن قليل العدد”.
ويضيف: “أن مصطلح الأقلية لم يكن يوماً لائقاً بنا، لكن الكثير من المسيحيين تقبلوا هذا الوصف على مضض، لأن بعض الاتفاقيات الدولية تمنح الأقليات حماية خاصة. للأسف، حتى هذه الحماية لم نحصل عليها، لا ضمانات للوجود، ولا عدالة في التمثيل، ولا احترام لخصوصية المكون”.
ويستطرد بالقول: “وفقاً لقانون الانتخابات النافذ فإن عدد المقاعد المخصصة للمسيحيين، اليوم، هو خمسة مقاعد، يقابلها 324 مقعداً مخصصاً لبقية أطياف الشعب العراقي، وبالتالي فإن شاغلي تلك المقاعد لا يمكن لهم أن يقدموا شيئاً للمسيحيين في العراق، إضافة إلى أن تلك المقاعد، وبسبب محاولات الاستحواذ عليها من قبل بعض الجهات السياسية، أصبحت لا تمثل المسيحيين وإنما تمثل جهة سياسية معينة”.
من جانبه، يرى الكاتب والباحث السياسي، كفاح محمود، أن أصل المشكلة لا يكمن فقط في الصيغ القانونية، بل في الثقافة السياسية السائدة.
ويقول محمود: “في الدول المتطورة لم يعد الناس يعرّفون أنفسهم على أساس ديني أو مذهبي أو عرقي، بل على أساس المواطنة، المجتمعات المتقدمة تذوّبت فيها الفروقات الدينية ضمن دولة مدنية تحترم الجميع على قدم المساواة”.
لكن الواقع العراقي يبدو بعيداً عن هذا النموذج، إذ ما تزال الهويات الفرعية تتحكم بمفاصل العمل السياسي، وتنعكس انعكاساً واضحاً في طريقة تمثيل الأقليات.

وتُظهر أزمة تمثيل المسيحيين في مجلس النواب العراقي، من خلال نظام الكوتا، خللاً عميقاً في بنية التمثيل السياسي للأقليات، كما تعكس إشكالية أوسع تتعلق بتداخل النفوذ الحزبي مع المسارات الانتخابية.
ورغم أن نظام الكوتا وُضع لضمان تمثيل مكونات المجتمع العراقي كافة، إلا أن ما يشهده هذا النظام من تدخلات مباشرة من قوى سياسية كبرى، وتشكيك في آليات التصويت، واستثمار سياسي لمقاعد الأقليات، قد حوّل الكوتا إلى أداة تفاوض وتحاصص، بدلاً من أن تكون أداة تمثيل وإنصاف.
مسيحيو العراق، أحد أعرق المكونات في البلاد، يواجهون تحدياً مضاعفاً بين تضاؤل أعدادهم بسبب الهجرة والاستهداف، وبين انكماش تمثيلهم الواقعي في العملية السياسية، سواء من خلال تقييد مناطق ترشيحهم بخمس محافظات فقط، أو من خلال وصول مرشحين لا يحظون بدعم القاعدة المسيحية نفسها.
وقد لا يعكس واقع الكوتا المسيحية في العراق، كما هو اليوم، إرادة المكون بقدر ما يعكس إرادة القوى التي تحيط به، وهو ما يدفع نحو إعادة تقييم جدوى النظام التمثيلي الحالي، وضمان ألا تتحول آلية الإنصاف إلى مسار جديد للتهميش، ضمن مشهد سياسي ما يزال محكوماً بآليات المحاصصة والولاءات المتقاطعة.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
الحياة مع أفعى.. وصايا السيد دخيل للنجاة من الموت
13 نوفمبر 2025
صوتٌ بلا إرادة: كيف تتحكم العائلة والعشيرة بخيارات النساء الانتخابية؟
08 نوفمبر 2025
قواعد اللعبة القديمة ليست كافية: خريطة بالتحالفات الانتخابية قبل الاقتراع
07 نوفمبر 2025
من بريمر إلى السوداني.. "خلطة الفياض" السحرية للبقاء في المنصب
06 نوفمبر 2025
في عراق أنهكته الحروب والطوائف وتراكمات العقود، لا تأتي الانتخابات بوصفها لحظة ديمقراطية محضة، بل غالباً ما تمثّل إعلاناً جديداً لبداية سباق لا يخلو من الخديعة، والتفافاً آخر حول صناديق يُفترض بها أن تعكس إرادة ناخب حر، لكنها كثيراً ما تعبّر عن إرادة أحزاب تتقن توزيع الأدوار، وتجيد إعادة تدوير الوجوه، وإنتاج التوازنات على مقاس نفوذها.
وفي ظل العدّ التنازلي للانتخابات البرلمانية المقررة في 11 تشرين الثاني 2025، يُكرَّس هذا المشهد بصورة أوضح، فالكتل السياسية العراقية، الكبيرة والصغيرة، تدخل سباقاً محموماً نحو كسب المقاعد البرلمانية، لا حباً بالتشريع، بل سعياً وراء موطئ قدم أوسع في دوائر الوزارات وهيئات الدولة وتشكيلاتها.
وهكذا، يصير البرلمان بوابة للمغانم، وتتحوّل الانتخابات إلى وسيلة لا غاية.
وخلف هذا المشهد التقليدي، ثمة صراع أكثر خفاء، لكنه لا يقل ضراوة. إنه صراع على “كوتا الأقليات”، وتحديداً “كوتا المسيحيين”، التي تتضمن -وفقاً لقانون الانتخابات- خمسة مقاعد برلمانية موزعة بين بغداد ونينوى وكركوك ودهوك وأربيل.
ورغم أنّ هذه المقاعد لا تتجاوز 1.5 بالمئة من مجمل عدد مقاعد البرلمان، إلا أنّها تشكّل في ميزان القوى باباً سياسياً مهماً، تستثمره الكتل الكبرى لتوسيع نفوذها وتثبيت تحالفاتها، حتى لو كان ذلك على حساب استقلالية المكوّن الذي يُفترض أن تعبّر عنه تلك الكوتا.
لم ينجح قانون الانتخابات العراقي، منذ ما بعد 2003، في تخليص مفهوم التمثيل البرلماني من شبح الطائفية والمكوناتية، بل على العكس، ترسّخ هذا المفهوم بقوة من خلال القرار التشريعي رقم 44 لسنة 2008، وتحديداً مادته السادسة، التي شرعنت “المحاصصة” تحت ذريعة “تنفيذ المتفق عليه من مطالب القوائم السياسية في أجهزة الدولة”.

ورغم أن المحكمة الاتحادية العليا أبطلت هذه المادة بقرار واضح في جلستها بتاريخ 14 تشرين الأول 2019، إلا أنّ آثارها بقيت حيّة في قوانين الانتخابات، وتوزيع المناصب، وحتى تمثيل الأقليات.
وجود قديم
الحديث عن المسيحيين في العراق لا يعني استحضار طائفة أو مكون فرعي، بل هو حديث عن واحدة من أقدم الجماعات الدينية في البلاد، حيث يعود وجودهم إلى القرن الميلادي الأول، إثر الحملة التبشيرية التي قادها مار آداي في بلاد ما بين النهرين وبلاد فارس وسوريا، والتي أثمرت عن تأسيس تلميذه مار ماري لكنيسة المشرق في المدائن، عاصمة الدولة الفارسية، وقد وثّق هذا الوجود العميق المؤرخ رفائيل بابو إسحاق في كتابه “تاريخ نصارى العراق.. منذ انتشار النصرانية في الأقطار العراقية إلى يومنا”، الصادر عام 1948، بمطبعة المنصور في بغداد.
ولم يكن تواجد المسيحيين بكثافة في شمال العراق وليد ظرف طارئ أو تحول عابر، بل هو انعكاس تراكمي لمسار طويل من البحث عن النجاة وسط بيئة سياسية واجتماعية مضطربة، فقد منحت الطبيعة الجبلية الوعرة لتلك المناطق -في دهوك وأربيل والسليمانية ونينوى- شكلاً من الحصانة الجغرافية، التي قلصت قدرة المعتدين على الوصول، ووفرت ملاذاً طبيعياً من موجات الاستهداف والهجمات التي واجهها المسيحيون على مر العصور.
لقد كانت الجبال، بوعورتها ومناعتها، حليفاً غير معلن للمجتمعات المسيحية، إذ حالت دون تمدد حملات الإقصاء، وحفظت القرى من الزوال، وصارت تشكّل حزام أمان حافظ على نبضها وإن تقلّص عددها، وهكذا، لم يكن الشمال مجرد خيار للسكن، بل للبقاء.
وقد واجه المسيحيون في العراق تحديات جسام منذ لحظة تشكّل حضورهم على أرضه، وتعرضوا عبر الأزمنة المتلاحقة لسلسلة من الهجمات، التي لم تكن محصورة بجهة أو حقبة واحدة، بل تباينت في طبيعتها ودوافعها وأدواتها.
ففي حين اتخذ بعضها طابعاً دينياً متعصباً، جاء بعضها الآخر بدافع سياسي، هدفه تحجيم التنوع وفرض هوية أحادية على المجال العام.

وقد ظلّ هذا التهديد قائماً حتى في أوقات الاستقرار الظاهري، إذ لم يكن غريباً أن يتحول التعايش إلى هشاشة، والضمانات إلى أوهام، في لحظات التحول أو الفوضى.
ومع كل موجة استهداف، كانت أعداد كبيرة من المسيحيين تغادر نحو الشتات، فيما بقي منهم من صمد أمام العنف.
ومنذ بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة، بدأت الإحصاءات السكانية تكشف ملامح التوزيع الديني والعرقي في البلاد، وكان للمسيحيين حضور لافت في تلك البيانات الرسمية.
في أول تعداد سكاني أُجري عام 1927، بلغ عددهم نحو 88 ألف نسمة، ثم ارتفع إلى 97 ألف نسمة في إحصاء 1934، ليقفز بعدها إلى أكثر من 149 ألفاً في تعداد 1947، قبل أن يتجاوز 204 آلاف نسمة في إحصاء عام 1957، من أصل عدد سكان إجمالي يبلغ نحو ستة ملايين ومئتي ألف، بنسبة تُقدر بـ 3.24 في المئة من مجموع السكان آنذاك.
لكن ما يلفت الانتباه في هذه الأرقام ليس فقط تصاعدها التدريجي، بل ما تعكسه من استقرار ديموغرافي نسبي لهذا المكون خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهي فترة لم تكن خالية من التحديات، ولكنها سمحت، نسبياً، بنموه الطبيعي اجتماعياً وثقافياً، وتعزيزه لموقعه بوصفه الشريحة الأوسع بين أتباع الديانات غير الإسلامية.
كان هذا الحضور الإحصائي دليلاً على تماسك مجتمعي لم يُترجم بالضرورة إلى تمثيل سياسي متكافئ، لكنه أرسى أرضية رقمية تؤكد أن المسيحيين لم يكونوا يوماً على الهامش، بل كانوا رقماً فاعلاً في البنية السكانية للعراق، قبل أن تبدأ موجات التراجع العددي الكبرى في العقود التالية.
ثاني شريحة
رغم أن عدد المسيحيين في العراق لم يكن يوماً منافساً للأغلبية المسلمة، إلا أن مكانتهم بين أتباع الديانات الأخرى بقيت متقدمة، إذ حافظوا على كونهم النسبة الكبرى بين أبناء الأقليات الدينية، متجاوزين بذلك أعداد الصابئة المندائيين، والإيزيديين، واليهود، وغيرهم من المكونات الدينية الأصغر.
هذه المكانة، وإن بدت رقمية في ظاهرها، إلا أنها تحمل في عمقها دلالة سياسية واجتماعية وثقافية عميقة، لأنها تنسف الرواية التي اختزلت المسيحيين في زاوية رمزية أو تمثيل شكلي.
كان المسيحيون الشريحة الثانية في البلاد بعد المسلمين، ليس فقط من حيث التعداد، بل من حيث الأثر، والمشاركة في النسيج الوطني، والمساهمة في بناء الدولة.
وهذه المرتبة التي احتلوها لم تكن مجرد نتيجة طبيعية لنمو سكاني، بل ثمرة حضور مدني نشط، ترك بصماته في الثقافة والتعليم والصحافة والاقتصاد.

ومع ذلك، لم تُترجم هذه المرتبة إلى تمثيل سياسي أو إداري يعادل وزنهم التاريخي والاجتماعي، بل ظلت الدولة -في نسخها المتعاقبة- تعاملهم على أساس رمزي، تارة بإدماجهم شكلياً، وأخرى بإقصائهم واقعياً، وبين هذا وذاك، بقي المسيحيون يتمسكون بمكانتهم الأصلية بوصفهم مكوناً فاعلاً لا تابعاً، ورقماً وازناً لا تفصيلاً ثانوياً.
ولم يكن الحضور المسيحي في الحياة العامة العراقية مقتصراً على النواحي الاجتماعية والثقافية، بل تعداه إلى ميدان السياسة منذ المراحل المبكرة من تاريخ الدولة، حتى في ظل الحكم العثماني، فقد مثّل داود أفندي يوسفاني، السياسي المسيحي المولود في الموصل عام 1854، حلقة مبكرة من حلقات الوعي السياسي للمسيحيين، وتجسيداً حياً لانخراطهم في المشهد العام رغم تعقيداته الطائفية والإدارية.
تدرج يوسفاني في مسيرته المهنية من التعليم إلى القضاء، ثم ارتقى ليكون نائباً عن الموصل في “مجلس المبعوثان العثماني” عقب انتخابات عام 1908، وهو المجلس الذي كان يُعد ذروة التمثيل النيابي في الدولة العثمانية آنذاك، وقد بقي عضواً فيه حتى عام 1914.
لم يكن دخول يوسفاني إلى المجلس مجرد استثناء فردي، بل علامة على وعي سياسي متقدم لدى مكون اختار المشاركة بدلاً من العزلة، والعمل من داخل البنية السياسية القائمة لا من خارجها.
كما عكس ذلك التمثيل نوعاً من الاعتراف الرمزي بمكانة المسيحيين، ولو على نحو محدود، في تركيبة المجالس المنتخبة آنذاك.
ورغم الإقصاء البنيوي في سياسة الدولة العثمانية تجاه الأقليات، فإن هذا التمثيل كشف عن جذر تاريخي للمشاركة المسيحية، ظل حياً في الذاكرة السياسية حتى بعد تأسيس الدولة العراقية.
بعد إعلان الانتداب البريطاني على العراق في 25 نيسان 1920، بدأت تتشكل ملامح الدولة الحديثة، وسط حراك شعبي واسع في بغداد.
خرجت جموع غفيرة تطالب بعقد مؤتمر وطني عراقي يحدد شكل الحكم في البلاد، ويقرّ الحقوق والحريات، ويلغي الأحكام العرفية، وينهي الحكم البريطاني، وقد تبلورت هذه المطالب لاحقاً في ثورة العشرين، التي غيّرت مسار التاريخ العراقي.
وفي خضم هذه الأحداث، صدرت الإرادة الملكية، يوم 19 تشرين الأول 1922، بتشكيل المجلس التأسيسي العراقي، الذي انعقد لأول مرة يوم 27 آذار 1924، بحضور 100 عضو، وكان الملك فيصل الأول حاضراً، حيث ألقى خطاباً رسمياً شدد فيه على ضرورة تشريع الدستور وقانون انتخاب النواب.
ورغم بعض الإخفاقات السياسية، إلا أن المجلس نجح في إقرار القانون الأساسي العراقي لسنة 1925، الذي نص في مادته 36 على ما يلي: “يتألف مجلس النواب بالانتخاب بنسبة نائب واحد عن كل عشرين ألف نسمة من الذكور”. ونصت المادة 37 على ما يلي: “تُعين طريقة انتخاب النواب بقانون خاص، يراعى فيه أصول التصويت السري، ووجوب تمثيل الأقليات غير الإسلامية”.
وهكذا، حصل المسيحيون على أربعة مقاعد نيابية، اثنان عن الموصل، وواحد عن بغداد، وآخر عن البصرة، في أول تجسيد دستوري للتمثيل النيابي لمكون غير مسلم في تاريخ العراق المعاصر.
عودة خجولة
مع إسقاط النظام الملكي في 14 تموز 1958، دخل العراق مرحلة جديدة، حملت شعارات التحرر الوطني، والعدالة الاجتماعية، والانفتاح، إلا أن السنوات الخمس الأولى من النظام الجمهوري شهدت انقساماً حاداً داخل صفوف المكون المسيحي، واضطرابات أمنية، واستهدافاً غير مباشر لبعض رموزه، ما ساهم في إضعاف تمثيلهم السياسي، وانكماش تأثيرهم النيابي.
لم يكن النظام الجمهوري، خاصة في بداياته، مؤمناً بالتعددية السياسية أو التمثيل المتوازن للمكونات، بل كان يكرّس المركزية في اتخاذ القرار، والاعتماد على الخطابات الجماهيرية، وإقصاء الخصوم.
في هذه البيئة، تضاءل الصوت المسيحي في الحياة السياسية، ولم ينجح في الحفاظ على ما كان له من تمثيل رمزي خلال العهد الملكي.
وخلال حقبة حزب البعث (1968 – 2003)، خضع التمثيل المسيحي لرقابة أمنية شديدة، فالنظام الحاكم كان يُخضع كل المكونات لآليات مراقبة دقيقة، ولم يكن يسمح بظهور صوت مسيحي مستقل داخل البرلمان أو الحكومة، بل كان يحرص على تقديم بعض الشخصيات المسيحية بوصفها “واجهة حضارية” للنظام، ضمن سياسة الدعاية لا أكثر.
في نيسان 2003، سقط النظام، وسقطت معه بنية الدولة المركزية، لتنهض على أنقاضه منظومة سياسية جديدة بمرجعية طائفية وقومية صريحة.
وفي تموز من العام ذاته، أُعلن تشكيل “مجلس الحكم الانتقالي” المكون من 25 عضواً، ضم مسيحياً واحداً فقط، هو يونادم كنا، في تمثيل بدا أقرب إلى مجاملة سياسية منه إلى تمثيل عادل لمكون تاريخي.
ومع إقرار الدستور العراقي الجديد عام 2005، ظنّ كثيرون أن العراق يخطو نحو الدولة المدنية القائمة على المواطنة، فقد نصّت المادة 14 من الدستور على أن “العراقيين متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو القومية أو الدين أو المذهب”. كما أكدت المادة 20 أن “للمواطنين رجالاً ونساء حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية، بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشيح”.

غير أن المادة 49/أولاً جاءت لتنسف كل ما قبلها، إذ نصّت على ما يلي: “يتكون مجلس النواب من عدد من الأعضاء بنسبة مقعد واحد لكل مئة ألف نسمة من نفوس العراق يمثلون الشعب العراقي بأكمله، ويتم انتخابهم بطريق الاقتراع العام السري المباشر، ويراعى تمثيل سائر مكونات الشعب فيه”، وهي عبارة ضبابية، فتحت الباب أمام ترسيخ “الكوتا” الدينية والقومية، وتحويل الأقليات إلى “حصص سياسية” توزع بين الكتل.
وفي قوانين الانتخابات اللاحقة، خصوصاً قانون رقم 4 لسنة 2023، (التعديل الثالث لقانون انتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات رقم 12 لسنة 2018)، تم تثبيت عدد مقاعد كوتا المسيحيين عند خمسة مقاعد فقط، موزعة على بغداد ونينوى وكركوك وأربيل ودهوك، في تجاهل واضح لوجودهم في محافظات أخرى.
صراع على الـ”كوتا”
لم تكن الكوتا المسيحية في البرلمان العراقي بمعزل عن الاستقطاب السياسي الذي هيمن على البلاد بعد 2003، بل تحولت في لحظة ما إلى ساحة تنازع مفتوحة بين الكنيسة، وبعض الشخصيات السياسية، والأحزاب المتنفذة ذات الأجندات الأوسع من حدود المكون ذاته.
ففي تصريح ناري، خرج الكاردينال لويس ساكو، بطريرك الكلدان في العراق والعالم، عن صمته، متهماً زعيم “حركة بابليون”، ريان الكلداني، بـ”الاستيلاء على مقاعد الكوتا المسيحية”، و”السطو على وزارة الهجرة والمهجرين بوصفها مخصصة للمكون المسيحي”.
ولم يتوقف ساكو عند هذا الحد، بل اتهم الكلداني بمحاولة السيطرة على الوقف المسيحي وأملاك المسيحيين في بغداد ونينوى وسهل نينوى، متهماً إياه أيضاً بـ”شراء رجال الدين المسيحيين بمساعدة امرأة وضعها في منصب وزير”، في إشارة إلى وزيرة الهجرة إيفان فائق يعقوب.
ولم يتأخر رد ريان الكلداني، إذ قال في بيان رسمي: “طالعنا بأسف واستغراب شديدين الرسالة المفتوحة رقم 160، بتاريخ 15 تموز 2023، التي وجهها البطريرك لويس ساكو إلى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والشعب المسيحي والعراقي، يعلن فيها انسحابه من المقر البطريركي في بغداد، ولجوئه إلى دير في إقليم كردستان، هرباً من مواجهة القضاء العراقي في قضايا وُجّهت له”.
وأضاف الكلداني “نحن حركة سياسية ولسنا كتائب، ونشارك في العملية السياسية، ونحن جزء من ائتلاف إدارة الدولة. قرار سحب المرسوم منه هو قرار صادر عن رئاسة الجمهورية، وليس عنا، وذلك لتعديل وضع دستوري خاطئ”.
وكانت رئاسة الجمهورية قد أصدرت في السابع من تموز 2023، بياناً توضيحياً، أكدت فيه أن سحب المرسوم الجمهوري رقم 147 لسنة 2013، الخاص بتعيين الكاردينال ساكو بطريركاً ومتولياً على أوقاف الطائفة، لا يمس مكانته الدينية، لأنه معين من الكرسي الرسولي وليس بواسطة مرسوم رسمي.
وأضاف البيان أن المرسوم السابق صدر دون سند قانوني، وأن رؤساء طوائف أخرى طالبوا بإصدار مراسيم مماثلة، ما دفع الرئاسة إلى إلغائه لتصحيح الوضع.
أداة تفاوض
لا تقتصر أزمة كوتا المسيحيين على الشبهات حول مصادرتها من قبل أحزاب متنفذة، بل تتعداها إلى حالات إقصاء مباشرة لمرشحين فازوا بأصوات الناخبين المسيحيين.
في انتخابات مجالس المحافظات لعام 2023، فاز المرشح المسيحي فاهرام هايك بمقعد مجلس محافظة البصرة بعد حصوله على 132 صوتاً من الناخبين المسيحيين، لكن مفوضية الانتخابات استبعدته لاحقاً، وعينت بدلاً منه مرشحاً عن حركة بابليون لم يحصل سوى على 43 صوتاً، بزعم شمول الأول بإجراءات هيئة المساءلة والعدالة.
وقد أثار هذا القرار موجة استنكار، خاصة وأن الإجراءات القانونية تنص على ضرورة فحص المرشحين قبل موعد الانتخابات وليس بعدها.
وفي مؤتمر صحفي عقده في البصرة، قال هايك: “أنا لم أكن بعثياً، كنت مؤيداً أثناء الدراسة الثانوية، ونصيراً في الجامعة، مثل غالبية الطلبة العراقيين آنذاك. لم أنتمِ إلى الحزب تنظيمياً، ولم أُمنح أي منصب أو ترقية بسببه”.
واستشهد بوثيقة صادرة من الشركة العامة لموانئ العراق، تحيل 112 موظفاً إلى التقاعد بسبب انتمائهم السابق بدرجة “عضو فرقة فما فوق”، دون أن يكون اسمه بينهم، ما يبرئه قانونياً.

ورغم هذه الحجج استمر قرار الإقصاء، ما أعاد إلى الواجهة تساؤلات بشأن مدى استقلالية المفوضية، ومدى تأثير القوى السياسية في قراراتها، خاصة في المناطق التي تُعد فيها كوتا الأقليات محط أطماع الكتل.
ومع تصاعد هذه المخاوف، يجد كثير من أبناء المكون المسيحي أنفسهم في مواجهة واقع سياسي يشعرهم بالتهميش والإقصاء، ليس من المناصب فقط، بل من التمثيل العادل أيضاً.
يقول الصحفي والمحلل السياسي باسل بولص: “إن عدد المسيحيين في العراق قبل عام 2003، كان يفوق مليوناً ونصف مليون نسمة، وكان في بغداد وحدها أكثر من 500 ألف نسمة، واليوم لا نبالغ إذا قلنا إننا تحوّلنا إلى مكوّن قليل العدد”.
ويضيف: “أن مصطلح الأقلية لم يكن يوماً لائقاً بنا، لكن الكثير من المسيحيين تقبلوا هذا الوصف على مضض، لأن بعض الاتفاقيات الدولية تمنح الأقليات حماية خاصة. للأسف، حتى هذه الحماية لم نحصل عليها، لا ضمانات للوجود، ولا عدالة في التمثيل، ولا احترام لخصوصية المكون”.
ويستطرد بالقول: “وفقاً لقانون الانتخابات النافذ فإن عدد المقاعد المخصصة للمسيحيين، اليوم، هو خمسة مقاعد، يقابلها 324 مقعداً مخصصاً لبقية أطياف الشعب العراقي، وبالتالي فإن شاغلي تلك المقاعد لا يمكن لهم أن يقدموا شيئاً للمسيحيين في العراق، إضافة إلى أن تلك المقاعد، وبسبب محاولات الاستحواذ عليها من قبل بعض الجهات السياسية، أصبحت لا تمثل المسيحيين وإنما تمثل جهة سياسية معينة”.
من جانبه، يرى الكاتب والباحث السياسي، كفاح محمود، أن أصل المشكلة لا يكمن فقط في الصيغ القانونية، بل في الثقافة السياسية السائدة.
ويقول محمود: “في الدول المتطورة لم يعد الناس يعرّفون أنفسهم على أساس ديني أو مذهبي أو عرقي، بل على أساس المواطنة، المجتمعات المتقدمة تذوّبت فيها الفروقات الدينية ضمن دولة مدنية تحترم الجميع على قدم المساواة”.
لكن الواقع العراقي يبدو بعيداً عن هذا النموذج، إذ ما تزال الهويات الفرعية تتحكم بمفاصل العمل السياسي، وتنعكس انعكاساً واضحاً في طريقة تمثيل الأقليات.

وتُظهر أزمة تمثيل المسيحيين في مجلس النواب العراقي، من خلال نظام الكوتا، خللاً عميقاً في بنية التمثيل السياسي للأقليات، كما تعكس إشكالية أوسع تتعلق بتداخل النفوذ الحزبي مع المسارات الانتخابية.
ورغم أن نظام الكوتا وُضع لضمان تمثيل مكونات المجتمع العراقي كافة، إلا أن ما يشهده هذا النظام من تدخلات مباشرة من قوى سياسية كبرى، وتشكيك في آليات التصويت، واستثمار سياسي لمقاعد الأقليات، قد حوّل الكوتا إلى أداة تفاوض وتحاصص، بدلاً من أن تكون أداة تمثيل وإنصاف.
مسيحيو العراق، أحد أعرق المكونات في البلاد، يواجهون تحدياً مضاعفاً بين تضاؤل أعدادهم بسبب الهجرة والاستهداف، وبين انكماش تمثيلهم الواقعي في العملية السياسية، سواء من خلال تقييد مناطق ترشيحهم بخمس محافظات فقط، أو من خلال وصول مرشحين لا يحظون بدعم القاعدة المسيحية نفسها.
وقد لا يعكس واقع الكوتا المسيحية في العراق، كما هو اليوم، إرادة المكون بقدر ما يعكس إرادة القوى التي تحيط به، وهو ما يدفع نحو إعادة تقييم جدوى النظام التمثيلي الحالي، وضمان ألا تتحول آلية الإنصاف إلى مسار جديد للتهميش، ضمن مشهد سياسي ما يزال محكوماً بآليات المحاصصة والولاءات المتقاطعة.